الشعب يريد دوام الاستبداد
اعتادت الأنظمةُ السياسية الشمولية على التمسح بالـ شعب. كل كلمتين يقولهما فريقُ الخطباء الذين يمثلون هذه الأنظمة ثالثتهما: شعب.
إذا كان ذهنك مشغولاً بعملٍ ما، وبجوارك راديو يبث خطاباً لأحدهم، تستطيع أن تلاحظ وجود إيقاع (رتم) للخطاب، هو كلمة (شعب)، تأتي في موضع محدد من كل جملة يقولها الخطيب.
كان حافظ الأسد من ألدّ أعداء الشعب السوري، إلا أنه لم يكن يتوقف عن التغني بالـ شعب! ولئن كانت دول العالم تسمي المجالسَ التشريعية برلماناً، أو مجلساً نيابياً، أو مجلساً للعموم، فإن البرلمان السوري قد سمي، بإيعاز من حافظ الأسد: مجلس الشعب.
فلان كاتب الشعب، وعلان فنان الشعب، وأما حافظ الأسد فهو، بحسب ما غنى جورج وسوف في سنة 1992، حبيب الشعب، وأمل الملايين.
بشار الأسد الذي أصبح رئيساً للجمهورية العربية السورية رغماً عن أنف الشعب، تحدث في خطاب القَسَم، مطولاً، عن الشعب، وحينما انطلقت الثورة ضده، من درعا، وأعطى لجنوده صلاحيات مطلقة في قتل أبناء الشعب، واعتقالهم، وسحلهم في الشوارع، وإذاقتهم أقسى صنوف العذاب؛ لم تطاوعه نفسه أن يخاطب الشعب بحديث متلفز، بل ذهب إلى مجلس الشعب الذي يُعرف باسم "مجلس التصفيق والدبكة"، فوجد الدبكة، بالفعل، معقودة أمامه، وأعضاء المجلس يعترضون طريقه بالهتاف والتصفيق، وترداد عبارة (الله، سورية، بشار وبس).. وفي أثناء الخطاب، راح هو يشوبر بيديه ويضحك (مثل الهبلان)، وراح أولئك الإمَّعاتُ يقاطعونه بعبارة (الله، سورية، بشار وبس)، ووقتها جادت قريحته فارتجل عبارة:
- أنتم تقولون الله، سورية، بشار وبس، وأما أنا فأقول: الله، سورية، (شعبي) وبس.
كان عدد الشهداء في اليوم الثلاثين من مارس/آذار 2011، حينما ألقى بشار الأسد ذلك الخطاب، في حدود الألفين، وكان الشعب السوري حزيناً جداً، ومرعوباً من احتمالات المستقبل، ينتظر من هذا الشخص الذي فُرض عليه بالقوة أن يقول شيئاً يؤدي إلى خلاصٍ ما، وبطريقة ما.. فلما رآه يتوقف عن الكلام كل خمس دقائق ويضحك (ويتكركر)، نزل إلى الشارع، بمئات الألوف، بل وبالملايين، واضعاً دمه على كفه، مؤمناً، أكثر من قبل بكثير، بأن الوقت حان للتخلص من هذه السلالة الكريهة، مهما بلغت التضحيات.
استبسل نظام الأسد، في تلك الفترة، من أجل إظهار أن (الشعب) معه، فكان يأمر مخابراته وحواشيه ومؤيديه بالنزول إلى الشوارع، وحمل الصور واللافتات التي تقول إن (الشعب) مستعد أن يتخلى عن حياته وروحه، في سبيل أن يبقى هو جاثماً على صدر الشعب.
كنا، نحن المعارضين، نظهر على الفضائيات، وتوجه إلينا الأسئلة حول ما يجري في سورية، فنقول إنها ثورة (شعب).. وتظهر في عمق الشاشة صور لمئات الألوف من أبناء الشعب السوري، وهم يرددون الهتافات التي تدعو إلى رحيل بشار الأسد، ولا ينسون والده، مؤسس جمهورية الرعب، حافظ الأسد، من لعناتهم.
وكان مؤيدو الديكتاتورية السوريون، إضافة إلى مؤيديه اللبنانيين، يظهرون على الفضائيات، ويشيرون إلى مسيرات التأييد، ويقولون: الشعب مع بشار، أنظروا، ها هو (الشعب)، حتى إن النائب اللبناني الأسبق ذي الوجه البسام، وئام وهاب، ظهر مرة على قناة (ANB)، وقال إنه مستغرب مما يقال بأن هناك في الشام ثورة، وأضاف: أنا الآن أتيت من الشام، ما فيها ثورة ولا ما يحزنون.
الخلاصة: لا شك في أن الحديث عن إرادة الشعب تدخل في باب الإنشاء الخطابي. والحقيقة أنني لم أسمع ناطقاً باسم النظام، أو باسم المعارضة، يقول الحقيقة، وهي: أن قسماً من الشعب يثور على نظام الأسد، وقسماً آخر يؤيده، وقسماً ثالثاً لا يريد أن يبقى النظام، ولكنه، في الوقت نفسه، لا يريد أن تحكمه المنظمات الجهادية التي تطرح نفسها بديلاً لهذا النظام.