السينمائي الروائي لبيد مفزوعاً
يُسعفك كثيرا، لتُدرِك مواضع الدجل في خطاب الرئيس المؤقّت لحكومة دولة الاحتلال، يئير لبيد (59 عاما)، أمام الأمم المتحدة الخميس الماضي، ثم في تصريحاته التالية، أن تعرف أنّ هذا الرجل كان ملاكما، وممثلا سينمائيا، ومذيع برامج تلفزيونية، وكاتب سيناريو، وصحافيا وكاتب مقال رأي، وأنّه أصدر 11 كتابا، بعضُها في الخواطر السياسية، وفي سيرته وسيرة والده الذي كان كاتبا وسياسيا (والدته أديبة، وزوجته كاتبة ومصوّرة وصحافية)، ومن كتبه سردياتٌ ورواياتٌ تعتمد التشويق الدرامي المتصاعد (ذهنية تلفزيونية!). يحبّ السفر، مليونير، يقال إنّه لا يحمل شهادة الثانوية العامة .. مفيدٌ أن تعرف هذا كله، لتُدرك انتقالات كلامه وثرثراته في غير أمرٍ وأمر بين الواقعي والمتخيّل، بين الراهن والمستقبل، بل أحيانا بين الفانتاستك والتجريد. من ذلك مثلا قوله إنّ معركة إسرائيل لحماية مواطنيها قد تصير عند الحدود الإيرانية. ومن ذلك أيضا تسميته الحملة الانتخابية التي يخوضها لانتخابات الكنيست (1 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل) "حملة حديقة الورود".
أفرط يئير لبيد، في خطبته أمام الأمم المتحدة، ثم في مقابلاته الإعلامية، في تقريظ "حلّ الدولتين" (تسوية الدولتين في ترجمةٍ أدقّ ربما)، فيكاد حماسُه في هذا يُشعرك بأنّه لا يزاول من أمور دنياه سوى العمل من أجل أخذ الفلسطينيين معه إلى هذا الحل، فيما الناظر في أدائه لا يرى سوى حماسه لأيّ تحالفٍ وتفاهمٍ مع أي يمينٍ في دولة الاستيطان، وبأيّ منزلةٍ من التطرّف والتعصّب، من أجل تسييج نجاحٍ يشتهيه لمغادرته صفته رئيس حكومة مؤقتا ليصير منتَخبا يقود حكومةً من غلاة النشطين في الحؤول دون استقلال الفلسطينيين ونيلهم حرّيتهم وبناء دولتهم. وهذا هو، يوما بعد خطبته تلك، يتوعّد الفلسطينيين ويُنذرهم بأنّ إسرائيل لم تشطُب خيار الأخذ بحملةٍ تشبه "السور الواقي" التي جنّد لها شارون قبل 20 عاما 30 ألف جندي، وأجهزت على ما أقيم من بِنيات كينونةٍ فلسطينيةٍ ناشئةٍ تحت الاحتلال. وبأوامر من صاحب رواية "غروب الشمس في موسكو" (واحدة من أعمال لبيد الأدبية)، جرى، بدءا من يوم أمس الأحد، إخضاع مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، لإغلاقٍ شامل، فيما يُجاز لغلاة المستوطنين تأدية "طقوسٍ تلموديةٍ" في احتفالات رأس السنة العبرية في القدس الأسبوع الجاري.
والظاهر، في الأثناء، أنّ وزير المالية الإسرائيلي السابق الذي اقترح استثناء العرب في الدولة العبرية من إعفاءٍ ضريبيٍّ، رأى منحَه للإسرائيليين اليهود لحلّ أزمة السكن، لا تنصرف عنه صفته كاتب مقال رأي أسبوعي (19 عاما)، عندما "ينظّر" لتسوية الدولتين، ويراها "تحمي إسرائيل من التحوّل إلى دولةٍ ثنائية القومية، التي تعني نهاية الصهيونية". الرجل في فزع، إذاً، من هذا المشروع الذي طرحته نخبة فلسطينية، محدودة، وبصيغ مختلفة، ويجده خطرا كبيرا على الإسرائيليين الذين عليهم، برأيه، أن يتفادوا أي كلامٍ عن "إدارة الصراع"، لأنّ ذلك سيقود إلى "دولةٍ واحدة"، وهذا "كارثيّ للصهاينة وللهوية اليهودية" .. هل يتحسّس الرئيس المؤقّت حكومة دولة الاحتلال، فعلا وواقعيا، خطرا محقّقا يقترب على الإسرائيليين من أمرٍ كهذا، أم أنّ أجنحةً من خيال الروائي وكاتب السيناريو ساقته إلى أن يستشعر هذا الخطر، وهو الذي يأتي، في معرض كلامه هذا، على "وجود علامات شكٍّ حول وجود أغلبية يهودية بين البحر والنهر"؟
استرسل الملاكم القديم في الحديث عن خطرٍ تمثّله إيران "التي تريد تدميرنا"، على ما أبلغ العالَم الخميس الماضي، غير أنّ خوفه الشديد من "دولة ثنائية القومية" مثير أيضا، وفي البال أنّ عزمي بشارة كان الأكثر وضوحا في بسط هذه الأطروحة منذ نحو 30 عاماً، فهذه الفكرة، (نظام شبه فيدرالي بين كيانين قوميين، ذو برلمانين، وبرلمان مشترك) بتماسُكٍ وبتفاصيل محدّدة لا تجعلها مشوّشة وعائمة كما بدت لدى من قالوا بها قبله. وليس المقام هنا إثارة سجالٍ متجدّدٍ بشأن هذه الفكرة التي لا تيسّر معطيات الظروف الحالية القائمة أي أرضيةٍ للنقاش فيها، بفعل ما تواظب عليه القوى الحاكمة في دولة الطرد والاستيطان والتمييز العنصري، بهمّةٍ ظاهرةٍ، في الإتيان على كلّ تطلّع فلسطينيٍّ نحو بناء كيان سياسي مستقل، ويئير لبيد واحدٌ من زعامات هذا النهج، وإنْ يؤرجِح نفسَه بين تسوية الدولتين ودولة ثنائية القومية، في أداءٍ كلاميٍّ يبدو فيه كأنّه يزاول تقديم برنامج تلفزيوني أو يكتب من عنديّاته سيناريو روايةٍ يتخيّل وقائع مفزعةً فيها، للتشويق والجاذبية السينمائية.