السيادة الوطنية السورية وبيان الإخوان المسلمين

07 يناير 2022
+ الخط -

لم يكن مفاجئاً تصريح جماعة الإخوان المسلمين في سورية إدانة القصف الإسرائيلي على ميناء اللاذقية أخيراً، فالجماعة تتحلّى بكثير من البراغماتية التي تجعلها غير مُحرجة في إعلان مواقف قد تكون خارج حسابات المزاج الشعبي العام، من دون أن تخشى كثيراً ردّة الفعل الغاضبة. كذلك فإنّ محاولات تقاربها مع النظام قبل الثورة معروفة، وقد وُجّهت إليها وإلى قادتها انتقادات شديدة، لعدم التحرّك في ملف ملاحقة مجرمي النظام، على ما ارتكبوه بحق الجماعة ذاتها وبحق السوريين خلال مجازر أحداث الثمانينيات من القرن الماضي، حيث أتيح لها ذلك ولا يزالُ متاحاً في عدة دول في الغرب. ويرى كثيرون أنّ جماعة الإخوان المسلمين لا تفرق عن نظام الأسد إلا في لون الأيديولوجية، لأنها مثله لا تسعى إلا إلى الوصول إلى سدّة الحكم والبقاء فيه ولو بأي ثمن.

لكن، لمَ كُلّ هذه الجلبة بشأن بيان "الإخوان" وموقفهم من القصف الإسرائيلي المتكرر للأراضي السورية، أليس من الواجب إدانة أيّ اعتداء على أرض الوطن؟ ثم ألا يستحق الخوف والرعب اللذين عاشتهما مدينة اللاذقية موقفاً حازماً يُظهر التكاتف والتلاحم الوطني في وجه الاعتداءات الصهيونية المتكرّرة؟ ولماذا التجنّي على "الإخوان" وتجزئة بيانهم واقتطاع بعضه وترك البعض الآخر؟ ألم يدينوا في بيانهم ذاته الاحتلالين، الروسي والإيراني؟ ألم يستهجنوا عدم تحرّك الروس دفاعاً عن السيادة السورية، على الرغم أنّ من الميناء المقصوف لا يبعد عن قاعدة حميميم سوى بضعة أميال؟ ثم ألم تُحمِّل الجماعةُ في بيانها نظام الأسد مسؤولية الاستباحة الإسرائيلية السيادة السورية منذ نصف قرنٍ من دون أي ردّ للاعتبار؟

تشرذم السوريين، وتفتّت هويتهم الوطنية، وتذرّر الروح الجامعة لهم، جعل من الطبيعي أن يقع الخلاف على قضايا كبرى، ما كانت تقبل النقاش لدى أي أمة ثانية في الظروف العاديّة

تشرذم السوريين، وتفتّت هويتهم الوطنية، وتذرّر الروح الجامعة لهم، جعل من الطبيعي أن يقع الخلاف على قضايا كبرى، ما كانت تقبل النقاش لدى أي أمة ثانية في الظروف العاديّة. إنّ أي احتلال أو عدوان حاصل من عدوّ تاريخي على أية أمّة أو دولة، ما كان ليقبل الجدل أو النقاش عند أهلها ومواطنيها. ولكن لماذا لم يكن الأمرُ كذلك بالنسبة إلى القصف الإسرائيلي الدائم والمستمر للأراضي السورية؟ أهو من باب انتقام السوريين من النظام الذي قتلهم وشرّدهم ودمّر بلدهم؟ وهل يكون الانتقام بالتشفي من استباحة الأعداء التاريخيين أرض الوطن وسماءه؟ وهل الوطن هو النظام الذي نحاربه، أم هو أكبر منه ومنّا؟

لا تنفكّ الأسئلة المُحقّة تطرح نفسها على كل سوريّ، وهي كثيرة ومعقّدة. أليس في فرض الروس رؤيتهم لمستقبل البلاد، وفي استباحة الإسرائيليين سماء سورية، وفي احتلال الإيرانيين مدنها وقراها، اعتداءً على السيادة الوطنية؟ ثم هل بقي من السيادة شيء عندما صارت البلد مرتعاً للجيوش والمليشيات والعصابات؟ ثم ما معايير السيادة الوطنية عندما تُمارس قتلاً وتدميراً وتشريداً على أهل هذا الوطن، وحتى الموالون منهم لنظام الحكم الذي سبّب كلّ هذا الدمار، لم يكونوا في منأى عن الإذلال، والاضطهاد، والتجويع، والترويع؟ وهل من معنى للسيادة إذا كان أهل البلد ذاتهم منقسمين فئاتٍ متعدّدة كلٌّ منها يؤيد محتلاً لأسباب تخصّه؟

في الحروب تثور الأسئلة، أسئلة الوجود والعدم، أسئلة الهويّة والتكوين، أسئلة الأولويات والثانويات، أسئلة البدايات والنهايات، ولا يتوقف الناس عن التساؤل إلا عندما يجدون الراحة والسكينة، وعندما يدركون أنّ صراعهم عبثيٌّ لا مُنتصر فيه سوى القتل والخراب والدمار، وأنّ الاستقواء بالغريب، ولو كان ابن عمّ، على الشقيق، ليس إلا كالاستجارة من الرمضاء بالنار.

لم تكن الجماعة موفّقة في بيانها، فلا هي نالت استحسان حاضنة الثورة، ولا يمكن أن ترضى عنها حاضنة النظامِ ولو خرجت من جلدها

وبالعودة إلى بيان "الإخوان"، يبدو أنّ الموقف من هذه الجماعة نابع من انتقاد حادٍّ لمجمل مسيرتها خلال فترة الثورة، فقد مارست الجماعةُ السياسةَ خلال هذه السنوات بطريقة التغلغل المكشوفة، فهي لم تترك أي جسم من أجسام المعارضة السورية وهياكله إلا وسيطرت عليه مباشرة أو بطريق القيادة من الخلف، بوضع جماعات تابعة لها في مستويات صنع القرار، أو بدفع أفرادٍ إلى الواجهة، مستقلين شكلاً، لكنهم تابعون لها في العمق، ويمثلون توجيهات قيادتها. يُحمّلُ سوريون كثيرون الجماعةَ المسؤولية عن أسباب فشل الثورة في إسقاط نظام الأسد، ويعتبرون أنّ سياسة التقيّة التي استخدمتها في التعامل مع القوى المجتمعية السورية من جهة، ومع القوى الإقليمية والدولية من جهة ثانية، كان لها أكبرُ الأثر في الإضرار بالثورة وحرفها عن مسارها الأساسي الهادف إلى الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن دولة الرعايا إلى دولة المواطنين.

تتركُ الجماعة صندوق الرسائل مفتوحاً على مصراعيه، فإدانة القصف الإسرائيلي على ميناء اللاذقية لا تخلو من ذكاء، لأنها تخاطب جمهور المؤيدين للنظام، كما تخاطب قادة النظام ذاته، وتفتح مجالاتٍ للتوافق مع الإيرانيين، ولو في حدود ضبابية غير واضحة. اعتبر سوريون أنّ موقف الإخوان المسلمين هو أكثر المواقف السياسية مرونة وبراغماتية، لأنه يستعمل أدوات حلف الممانعة والمقاومة الموسومة والمدموغة بطابعِ نظامي الحكم الإيراني والأسدي، لينافسهما على ساحاتٍ داخلية، أو ليتقرّب منهما بشكل أو بآخر. بينما اعتبر آخرون أنّ الجماعة لا يمكنها أن تفكّ ارتباطها العقدي مع نظام الملالي، بل على العكس يصفونها بالأب الروحي لفكرة ولاية الفقيه من خلال مفهوم المرشد العام الأصيل لديها، أي ولي الأمر الواجبة طاعته، ويستشهدون على ذلك بموقف الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي الذي زار طهران بعد توليه الرئاسة فوراً، ويستدعون مواقف لقادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي لتأييد ما يذهبون إليه.

في الحروب تثور الأسئلة، أسئلة الوجود والعدم، أسئلة الهويّة والتكوين، أسئلة الأولويات والثانويات، أسئلة البدايات والنهايات

غير ضياع الهوية السورية الوطنية الجامعة، اعتبارات كثيرة جعلت السوريين منقسمين بشأن الجيوش الموجودة فوق أراضيهم، حتى حول الأراضي السورية التاريخية التي اقتُطِعَت من الجسد السوري بعد الحرب العالمية الأولى لمصلحة تركيا، أو التي احتُلّت خلال الحروب اللاحقة مع إسرائيل، فسوريون كثيرون يحمدون الله على أنها ليست تحت سيطرة نظام الأسد، وإلا كان مصيرها الدمار والخراب كباقي المناطق السورية، أو أنها كانت ستشكل، حسب وجهة نظر بعضهم، خزّاناً إضافياً للمقاتلين في صفوف النظام ضد الفئات الثائرة عليه. ولعلّ من بين هذه الاعتبارات أنّ القصف الإسرائيلي لم يستهدف، في أي يومٍ منذ عام 2011، على الأقل المدنيين السوريين، بل إنه تركّز على القوات الإيرانية ومراكز قوات النظام المسؤولة عن قتل هؤلاء المدنيين وتهجيرهم وتدمير ممتلكاتهم وسلبها. من هنا يمكن فهم أسباب الغضب العام ضمن حاضنة الثورة على بيانِ "الإخوان"، وهذا ليس بالأمر الهيّن، إذا ما اعتبرنا أنّ جزءاً هائلاً من بيئة الجماعة منتمٍ إلى هذه الحاضنة أو محسوبٍ عليها.

لم تزل هذه الجماعة تخسر من رصيدها الاجتماعي والسياسي، فعلى ما يبدو أنّ التقيّة السياسية لا تتناسب مع طبيعة الثورات الهادفة إلى قلب المجتمعات رأساً على عقب. لم تكن الجماعة موفّقة في بيانها، فلا هي نالت استحسان حاضنة الثورة، ولا يمكن أن ترضى عنها حاضنة النظامِ ولو خرجت من جلدها، ولا هي كسبت تعاطف السوريات والسوريين، ولا هي دعمت السيادة الوطنية في مواجهة عدوٍّ غاصبٍ، باتت الأغلبية العظمى من السوريين تراهُ أقلّ وحشية وإجراماً بحقها من عدّوٍ آخر غاصبٍ ومدمّر وحاقدٍ، ليس فقط على الحاضر، بل وعلى الماضي والمستقبل، وليس فقط على الهويّة، بل وعلى الوجود ذاته.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود