السوريّون بين أقفاص الخبز ودموع "الشاكرية"
يميل الطغاة، عموماً، إلى امتلاك مزيج من سِمَات اضطراب الشخصية النرجسية، مثل الافتقار إلى التعاطف والعظمة والتعطش للسلطة والسيطرة والخداع واللامبالاة بالقوانين أو بالأخلاق. هذا النوع من الأشخاص لقَّبه المحلل النفسي النمساوي، أوتو كيرنبرغ، بـ"النرجسي الخبيث". فكل طاغية مصابٌ حتماً بمرض العظمة (ميغالومانيا). هو المركز وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده. وعليه، لا يتوانى بعض الطغاة عن إدخال بلادهم المزادَ العلني السياسي، معتمدين على الثالوث المقدّس خاصتهم: (عدو، مؤامرة، خيانة). ولنا في تصريح بشار الأسد أدلّ مثال: "سورية لمن يدافع عنها بغض النظر عن جواز سفره". يدفعنا هذا الواقع المرير باتجاه تفسير اللغز المُحيّر للمازوخي الذي يقبل الإهانة والإيذاء على شعبه، بل ويستمتع بذلك أيضاً؟ فـ"العنجهية المازوخية" أصابت النظام السوري، لا شك، هو الذي يعتقد أنه ببقائه سيغير العالم لصالحه، بينما في حقيقة الأمر ليست تمنياته إلا من قبيل ما قاله جرير يوماً:
زعم الفرزدق أنْ سيقتل مربعاً/ أبشر بطولِ سلامةٍ يا مربع.
في المقابل، حلّل عالم النفس الألماني، أريك فروم، في كتابه "الهروب من الحرية"، شخصية الطاغية المازوخية التي تقوم أساساً على الخوف، ويملأها الرعب من الوحدة وعدم القيمة الذاتية، فيبحث عن شخصٍ ما أو سلطةٍ أو قوة يشعر بأنها تحتويه أو "تبتلعه" وتغمره بقوَّتها. ذلك أن المازوخي يعاني صراعاً وعذاباً كبيراً داخل ذاته. إذ يتأرجح بين رغبته في أن يكون مستقلاً وقويّاً وشعوره بالعجز والتفاهة، حتى يصل إلى مرحلة تحقير ذاته الفردية وتحويلها إلى لا شيء. وهل نحتاج إلى التذكير بأن رئيس مركز كارنيغي الروسي أليكسي مالاشينكو اعتبر أنّ سياسة الأسد الابن في التعاطي مع الروس تشبه محاولة "الذيل في التحكّم بالكلب"، إذ يحاول أن يوحي لموسكو، عبثاً، بأنه لن يكون هناك وفاق بينها وبين النظام السوري إلا بوجوده! في المقابل، كانت الشعرة التي قصمت ظهر الأسد ما حصل في قاعدة حميميم العسكرية، حيث نهرَه ومنعه هناك أحد الضباط الروس بقوة من اللحاق بالرئيس الروسين بوتين، في أثناء محاولته المشي خلفه بسرعة وارتباك ملحوظ! وليس نهاية فصول الذلّ المريرة، استدعاء بوتين الأسد إلى مقره العسكري في دمشق من دون سابق إنذار، رفقة وزير الدفاع السوري الذي تعمّد الروس إذلاله، من خلال إجلاسه على مقعد صغير، ما جعله يبدو بهيئة القزم والمسخ أمام الحاضرين وبوجود رئيسه "المفدّى".
كلّ شعور بالعظمة هو مركّب نقص مقلوب، إذ يعتقد الطاغية أنه ضحية مؤامراتٍ تحاك ضده وتريد النّيل منه باستمرار
تأسيساً على ما تقدّم، يتضح أنّ شخصيةَ المستبد مطلقة تجتمع فيها كل المتناقضات، فبالرغم من قسوة جوزيف ستالين ومسؤوليته المباشرة عن قتل ملايين الناس، اختار لنفسه لقب "أبو الفقراء"، أما لقب كاسترو فهو "القائد الأكبر"، ولقّب معمّر القذافي نفسه "ملك ملوك أفريقيا"، واتخذ ماو تسي تونغ لقب "الموجّه الأكبر". وبالطبع، اتخذ حافظ الأسد ألقاباً عدة أكثرها شيوعاً: "الأب المناضل" و"القائد الخالد".. فكلّ شعور بالعظمة هو مركّب نقص مقلوب، إذ يعتقد الطاغية أنه ضحية مؤامراتٍ تحاك ضده وتريد النّيل منه باستمرار، أي أنه يستجيب على نحو عدواني اهتياجي مع طغيان مشاعر عارمة بالسطوة والجبروت، كردّ فعل دفاعي تجاه مشاعر النقص الشديدة لديه، حتى يحوّل الجموع الغفيرة إلى مسوخٍ تقبع في أقفاص، لا تملك مثقال ذرّة من حريتها. خذ مثالاً الصورة الصادمة التي أظهرت أقفاصاً من الشباك الحديدية مزدحمة بالأشخاص، وضعت أمام أحد الأفران الحكومية في دمشق لـ"تنظيم طوابير الخبز"! وفي الواقع، هذه صورة "سورية الأسد" الحقيقية، حيث الوطن، المُباع أصلاً، سجن كبير، والمواطن "حيوان ذليل" يعيش في القفص.
ولعل أبرز ظواهر الإذلال السوري اليوم برامج المسابقات التي يبثها إعلام النظام، والتي كانت تتّسم على الدوام بأنّ جوائزها المالية ضئيلة وغير مُغرية على الإطلاق. زاد الطين بلّة أن مقطع فيديو انتشر، أخيرا، وأثار غضب السوريين، تظهر فيه صحافية تسأل المارّة عن احتياجاتهم، وتهديهم كميات من المواد الغذائية، إلا أن الجزء المؤثر كان اللقاء مع رجلٍ دعته الصحافية لشراء طبخةٍ فاعتذر عنها مراراً، لكنها ألحّت في دعوته، وعدّدت له بعضاً من الوجبات التقليدية، ما دفع الرجل إلى البكاء بشكل عفوي بعدما سألته إن كان يحب "الشاكرية"، ملخّصاً معاناته بعبارة "الأوضاع صعبة". إنها دموع تعكس العجز والذلّ الذي يعانيه السوريون، في وقتٍ ترسل فيه الحكومة السورية (طائرة مساعدات إنسانية!) إلى جمهورية لوغانسك الشعبية، والتي جرى توزيعها على مؤسّسات الأطفال في الجمهورية!
مأساة "الأسد النفاج" أنه غدا سجين سلطته، لأنه ببساطة لا يحكم بل يتحكّم، ما يجعله يسير في طريقٍ ذي اتجاه واحد، لا يحتفظ لنفسه بخط رجعة
وليست المقالة هنا في مقام إجراء مفاضلة بين درجات العنف الرمزي، الذي تتصدّره أقفاص الخبز أو "دموع الشاكرية"، وإنما هي في معرض الحديث عن ظاهرة الإذلال التي يمارسها نظام ذليل أصلاً، والتي تعكس حالة شيزوفرينيا مخيفة، ناجمة عن مازوخية سياسية متطرّفة. ولا شك أن جنون العظمة هو الوجه الآخر لجنون الاضطهاد والإذلال، فقيام ثورة على أي طاغية يعني انهيار عالمه كله. وبسبب هذيان العظمة، لا يستطيع رؤية الحقائق كما هي في الواقع العياني الملموس، بل يراها من فوق عرش أوهامه. بمعنى أنه يعجز عن النظر إلى ثورة الفقراء والمسحوقين بوصفها حركةً شعبيةً عفوية، ويلجأ إلى فهمها فهماً تأويلياً في ضوء هذيان العظمة لديه. ولنا في خروج أبناء محافظة السويداء، أخيرا، لمطالبة الحكومة بتحمّل مسؤولياتها أبرز دليل على هذا. وكان الأمر ليمرّ مرور الكرام، لولا أنّ الشعارات تطوّرت شيئاً فشيئاً، لتصل، في آخر محطاتها، إلى المطالبة بإسقاط النظام السوري بعد حرق صور الأسد، ما دفع "الداخلية السورية" لإصدار بيان، وَصفت فيه من أقدم على ذلك بأنهم "خارجون عن القانون".
لنتفق إذاً أنّ الأنوية أساس الطغيان. والأنوية من الأنا، وتعني التمركز حول الذات وردّ كل شيء إليها، حتى تتطوّر إلى مراحل عمرية أعلى لتصير (نفاجاً)، ما لم تُهذّب وتُشذّب بالثقافة والعلم. و(النفاج) يعني المبالغة الخرافية في تقدير الذات حتى يغدو صاحبها كائناً مهووساً بالعظمة ورفعة الشأن. ردّاً على سؤال أحد الصحافيين عما إذا كانت التظاهرات التي عمّت مدن رومانيا ستؤدي إلى التغيير، أجاب رئيس رومانيا المخلوع، نيقولاي تشاوشيسكو، بعنجهية مستهزئاً: "لن يحدُث تغيير في رومانيا إلا إذا تحوّلت أشجار البلوط إلى تين". بعد أربعة أيام فقط من التصريح، قُبض على الطاغية هارباً مع زوجته، وتمّ إعدامهما رمياً بالرصاص.
نافل القول إنّ مأساة "الأسد النفاج" أنه غدا سجين سلطته، لأنه ببساطة لا يحكم بل يتحكّم، ما يجعله يسير في طريقٍ ذي اتجاه واحد، لا يحتفظ لنفسه بخط رجعة. وهل ننسى إرادة شرح المفردات والتفلسف في لقاءات الأسد، التي كانت غالباً ما تظهره بمظهر الضائع المنفصل عن الواقع أو البلاهة؟ فصامٌ جعله يبدو أشبه بمن يجد نفسه فجأة على ظهر وحش كاسر مُمسكاً بلجامه، ويستخدمه في البطش بالآخرين، والتنكيل بهم بغية السيطرة والإخضاع، والطريقة الوحيدة لبقائه هي في الثبات على ظهر الوحش الذي لا بدّ سيأكله يوماً، لأن نزوله يعني "بالنسبة له" أنّ الآخرين سينقضون عليه انقضاض قطيعٍ من الضباع على غزالٍ جريح.