السوريون يريدون الحلّ وليس أيّ حلّ
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
يتقاطع وضع سلطة بشار الأسد في سورية، في أوجه عدة، مع وضع سلطة الخلفاء العباسيين في أواخر عهد دولتهم؛ حينما تحوّلت إلى مجرّد دولة اسمية، اقتصر حكمها على بغداد والمناطق المحيطة بها تقريباً؛ ولم تكن تمتلك مقوّمات الدفاع عن نفسها، فكان الاستنجاد بالبويهيين تارّة، وبالسلاجقة تارّة أخرى، في محاولات من الخلفاء المعنيين لتخفيف حدّة سيطرة هذا الفريق أو ذاك من خلال الاستقواء بالفريق الآخر. وفي النهاية، بلغت الدولة حداً من الوهن لم تساعد كل أساليب الدعم أو التحايل على تجاوزه، حتى حاصر هولاكو بغداد عام 1258، ودمّرها، وارتكب المجازر ضد أهلها، وقبض على الخليفة العباسي الأخير، المستعصم بالله، وذبحه، ليصبح العراق بعد ذلك جزءاً من الإمبراطورية الإيلخانية.
ورغم ضعف الدولة في مراحلها الأخيرة، كان الخليفة العباسي يمثل رمز الشرعية لدى المسلمين السنة، ولعلّ هذا ما يفسّر حرص عماد الزنكي، ومن بعد ابنه نورالدين، على نيل اعترافه، والحكم باسمه. وهذا ما فعله صلاح الدين الأيوبي أيضاً، رغم أن المناطق التي كان يحكمها بالفعل (كانت من الناحية الرسمية ولاية تابعة للدولة العباسية)، كانت أوسع بكثير من التي كانت يحكمها الخليفة العباسي نفسه، كما أن سلطته كانت أقوى بكثير من سلطة الأخير، فالشرعية كانت مطلوبة لإقناع رعايا الحاكم الذي كان يحكم باسم الخليفة، ولعلّ هذا ما يفسّر حرص صلاح الدين على التمهل في رفع اسم الخليفة الفاطمي من خطبة يوم الجمعة. ومن الطرائف التي ترويها كتب التاريخ في هذا المجال أن الخليفة الفاطمي العاضد توفي بعد أسبوع من إسقاط اسمه من الخطبة، ولدى وصول خبر وفاته إلى صلاح الدين، قال "لو علمنا أنه يموت في هذه الجمعة ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة". وكان تعليق القاضي الفاضل الذي كان من المقرّبين جدا من صلاح الدين: "لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت".
بعد كل الجرائم غير المسبوقة التي ارتكبتها سلطة الأسد ضد السوريين، نشهد خطوات متسارعة من تركيا لتطبيع العلاقة معها
بشار الأسد اليوم مجرد رئيس شكلي لسلطةٍ ما كان لها ان تستمر أشهرا بعد انطلاقة الثورة السورية في ربيع عام 2011، لولا تدخل كل من إيران وروسيا إلى جانب المليشيات المذهبية وغيرها. وكانت ذريعة هؤلاء أن تدخّلهم شرعي، لأنه كان بناء على طلب الرئيس الشكلي الذي فُرض على السوريين بعد وفاة والده بموجب هرطقة دستورية مرّرها رئيس مجلس الشعب في ذلك الحين، عبد القادر قدّورة، وبموافقة أركان سلطة الأسد الأب، ومن بينهم نواب الرئيس. ومع الأيام الأولى للثورة السورية السلمية، فقد الرئيس الإشكالي شرعيته الاسمية بصورة نهائية، حينما أمر بإطلاق النار على السوريين المنتفضين العزّل، واستنجد برعاته من الخارج لدعمه ومساعدته في قتل السوريين، وارتكب المجازر ضد السوريين في مدن وبلدات سورية عديدة؛ كما قصف السوريين بالسلاح الكيميائي وبراميل البارود أعواما؛ وتسبّب في قتل نحو مليون سوري، وتشريد وتهجير ملايين آخرين.
واليوم، وبعد كل الجرائم غير المسبوقة التي ارتكبتها سلطة بشار الأسد ضد السوريين، نشهد خطوات متسارعة من تركيا لتطبيع العلاقة معها. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى اللقاءات العديدة بين المسؤولين الأتراك ومسؤولي السلطة المعنية وبوساطة روسية، كما نشهد استمرارية في الانفتاح الإماراتي على الأسد، وهناك حديث عن تفاهم تركي إماراتي، وربما تعاون، في هذا المجال. وهنا لا ننكر أن تركيا ساعدت مشكورة، حكومة وشعبا، السوريين وفي أحلك الظروف، وتحمّلت عبئاً كبيرا في استقبالها نحو أربعة ملايين سوري، فضلاً عن دعمها مؤسسات المعارضة؛ ولكن ما يجري راهناً، وفقا للمعطيات المتوفرة، لا يوحي بإمكانية إسهامه في المساعدة على التوصل إلى حلٍّ يتطلع إليه السوريون. حل ينصفهم، ويضع حدّاً لمعاناتهم القاسية غير المسبوقة؛ وهي المعاناة التي تسبّبت فيها روسيا بوتين، والنظام الإيراني، إلى جانب السلطة نفسها، فروسيا هي التي ساعدت بشار الأسد منذ اليوم الأول بالأسلحة والتغطية الدبلوماسية، ثم ساعدته بتدخلها العسكري، وعرقلتها مسار جنيف، وتمكّنها من حصر الموضوع السوري بلجنة دستورية عقيمة.
تركّز الحكومة التركية، بصورة مستمرّة، على موضوع حزب العمال الكردستاني وواجهاته السورية
ولعله من الجدير بالذكر أن ما جرى في سورية لا ينفصل عما حصل في العراق ولبنان واليمن، وما قد يحصل في دولٍ أخرى، في إطار المشروع الإيراني المستمرّ منذ نحو أربعة عقود، وهو مشروع يركز على خلخلة مجتمعات ودول المنطقة بمختلف الأساليب لتغدو ضعيفة المناعة، وعاجزة عن حماية ذاتها. وقد استغلّ هذا المشروع المذهبي أيديولوجية لبث روح الفرقة، وتكريس الهواجس والتشكيك؛ وليس من المستبعد أن يمتدّ هذا المشروع مستقبلا إلى الدول الخليجية نفسها، خصوصا السعودية، وحتى إلى تركيا، وهي سياسة قديمة جديدة معروفة في المنطقة، اعتمدت، بصورة لافتة، منذ المرحلة الأخيرة من الحكم العباسي التي بدأ بها هذا المقال. والأمر الذي يدعو إلى التمعّن في هذا السياق أن موضوع تحرير القدس كان، منذ ذلك الحين، كما هو الحال عليه في يومنا الراهن، مادّة لشد العصب وانتزاع الشرعية.
وبالعودة إلى حسابات الحكومة التركية الخاصة بمساعيها في ميدان الانفتاح على سلطة بشار الأسد الشكلية، يُلاحظ أنها تحاول سحب البساط من تحت أقدام معارضيها الذين يربطون بين الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تركيا حاليا ووجود لاجئين سوريين كثيرين (يحتاج هذا الادّعاء إلى التدقيق والدراسة من مختلف جوانبه).
وفي المنحى ذاته، تركّز الحكومة التركية، بصورة مستمرّة، على موضوع حزب العمال الكردستاني وواجهاته السورية. هذا رغم اطّلاعها الكامل على خفايا هذه الملف وبواعثه؛ فهي تعرف جيداً أن بشار الأسد نفسه قرّر إدخال هذا الحزب إلى المناطق الكردية ليساعده في ضبط الأمور هناك، عبر منع تفاعل الكرد مع الثورة السورية. وتعرف تركيا أن ذلك القرار كان بالتنسيق مع كل من إيران وروسيا. ولكن الذي حصل لاحقاً في خضم التحولات والتوافقات التي شهدتها الأحداث والمتغيرات في سورية، ومع التوافق الأميركي الروسي على حصر الجهد في سورية بموضوع مكافحة "الإرهاب" الذي صنعته سلطة بشار أصلاً، أن التحالف الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، اعتمد على قوات الحزب المذكور في معاركه الأرضية مع "داعش"، التنظيم الوظيفي الذي أضرّ كثيراً بالثورة السورية، وما زال يُستخدم عند اللزوم في سورية والعراق.
سلطة بشار الأسد العقبة الكأداء أمام جهود ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتوحيد الأرض السورية
وبالنسبة إلى الانفتاح الإماراتي على بشار الأسد، فهو يثير تساؤلاتٍ وتخميناتٍ كثيرة. وهناك من يرى أن القصد منه هو إقناع الأخير بضرورة الابتعاد عن إيران مقابل الانفتاح العربي عليه. ويذهب بعض أصحاب هذا الرأي إلى أن هذه المحاولة تأتي بالتنسيق مع الجانب التركي برعاية روسية، ويدعم هؤلاء وجهة نظرهم بغياب إيران عن اللقاء الثلاثي الذي انعقد أخيرا في موسكو، وهو الغياب الذي يبدو أنه سيتكرّر في لقاءات ثلاثية أو رباعية. أما ما يتصل بالموقف الروسي، من الملاحظ أن بوتين، وبعد فشله الذريع في أوكرانيا، وتحت تأثير الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية الهائلة التي يتعرّض لها نظامه في روسيا، يسعى إلى تحقيق اختراق ما في الملف السوري، علّه يتمكّن من جمع نقاط يستخدمها أوراق ضغط في أية مفاوضات مع الغرب بشأن أوكرانيا.
وبطبيعة الحال، تبقى كل هذه التحرّكات مرهونة بماهية الموقف الأميركي، فالولايات المتحدة هي اليوم حاضرة بقوة في الملف السوري، وقد تمكّنت، بالفعل، من فرض منطقة حظر جوي واسعة بعيداً عن الضجيج الإعلامي؛ وهي ليست في عجلة من أمرها على ما يبدو. كما أنها تراقب الأوضاع في إيران، ومستمرّة مع الدول الغربية في دعم أوكرانيا بهدف تمكينها من الصمود في مواجهة الغزو الروسي، وهي، على الأغلب، تتابع نتائج استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا.
يستوجب الوضع في سورية حلاً سياسياً يُنصف السوريين، لكن هذا الأمر لا يمكن بلوغه بمبادرة فردية من هذه الدولة أو تلك، بل يحتاج إلى تحرّك أوسع يجمع بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، وبالتفاهم مع الولايات المتحدة والأوروبيين، للدفع باتجاه حلٍّ عادل متوازن يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم. ولعله نافلا التذكير هنا مجدّداً بأن مثل هذا الحل سيكون في صالح الجميع في نهاية المطاف، فسورية تبقى بوابة المنطقة، ومن دون ضمان الاستقرار فيها لن يكون هناك استقرار في دول الإقليم بأسرها. هذا ما تؤكّده دروس التاريخ، ووقائع الحاضر. وقد بيّنت سنوات القيامة السورية الـ 12 أن الحلول الارتجالية الانفعالية الجزئية لم تؤدّ ولن تؤدّي إلى حلٍّ يضمن للسوريين حريتهم وكرامتهم، وللمنطقة وأمنها واستقرارها وانتعاشها. ومن أبجديات أي حل واقعي ممكن في سورية أن تُحاسب الجهة التي أوصلت الشعب والوطن إلى الوضعية الكارثية الراهنة؛ والجميع يعرف أنها سلطة بشار الأسد التي تشكل اليوم العقبة الكأداء أمام جهود ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتوحيد الأرض السورية.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.