السودان ينزلق إلى الهاوية

27 ابريل 2023
+ الخط -

يزداد المشهد السوداني تعقيداً، على الرغم من الهدنة المتقطعة (يُفترض أن تنتهي ليلة اليوم الخميس) بين الجيش وقوات الدعم السريع بعد وساطة أميركية سعودية. ومع اقتراب الحرب من إنهاء أسبوعها الثاني، وتزايد الرهانات الإقليمية والدولية بشأن مساراتها ومآلاتها، وغياب أي أفق للتسوية بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، يقترب السودان أكثر من السيناريوهات التي حدثت في العراق وسورية وليبيا واليمن، بما يعنيه ذلك من اتّساع رقعة العنف وتفكيك النسيج الأهلي والاجتماعي وتدمير البنى التحتية وإثارة النعرات القبلية والعرقية والطائفية.

بالطبع، لا نتمنّى تكرار هذه السيناريوهات في السودان، ليس فقط لأنها تهدّد بلدا عربيا كان يُفترض أن تسعى نخبه السياسية والعسكرية إلى الحفاظ على ما تبقّى من وحدته الوطنية واستثمار موارده الطبيعية الهائلة في بناء نهضةٍ تنمويةٍ تستجيب لتطلعات السودانيين في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل أيضا لأن ما يحدُث في السودان يُنذِر بما يُحتمل أن تنعطف إليه أقطار عربية أخرى مستقبلا، في ضوء الإفلاس السياسي لنخبها وعجزها عن كسب رهانات التحديث والتنمية والديمقراطية، من دون إغفال تزايد سطوة قوى الثورة المضادّة، الإقليمية والدولية، التي تقدّم لها الأزمة السودانية هامشاً جديداً للمناورة وخلط مزيد من الأوراق في منطقةٍ على قدر كبير من الأهمية الجيوسياسية.

لا بارقة أمل تلوح في الأفق بشأن وقف الحرب وإنهاء معاناة السودانيين. وهو ما يجعل تحقُّق الأسوأ وارداً جداً. فعلى الصعيد الميداني، ليست الحرب بين الطرفين تقليدية يتواجه فيها جيشان نظاميان، بقدر ما هي حرب شوارع مفتوحة، لا تحكُمها قواعد اشتباك واضحة، وتخضع للحسابات القبلية والعرقية والجهوية التي يبدو أن قائد قوات الدعم السريع أكثر خبرة في توظيفها. كما أنّ هناك طرفاً ثالثاً يحاول تعقيد المشهد أكثر، بما يساعده على إعادة ترتيب أوراقه واستعادة المبادرة؛ يتعلق الأمر بفلول نظام البشير التي دفعت قيادة الجيش، حسب ما يتردّد، إلى اتخاذ قرار شنّ الحرب على قوات حميدتي، في مسعى منها إلى استعادة السلطة وقد أُزيحت عنها في 2019.

بالتوازي، تمثِّل القوى الإقليمية المؤثرة عاملاً آخر في تعقيد الوضع في السودان. ولا يخلو من دلالةٍ ما صرّح به أحد مستشاري قائد قوات الدعم السريع لقناة إسرائيلية: ''إن ما تمرّ به هذه القوات مرّت به إسرائيل آلاف المرّات مع المنظمات الإرهابية'' في سقطةٍ سياسيةٍ وأخلاقية تعكس حجم الرداءة التي باتت تقيم فيها مثل هذه النخب العربية على اختلاف مواقعها. مجازفة حميدتي بوضع بيضه في السلة الإسرائيلية قد تقلب معادلة الصراع رأساً على عقب، خصوصاً أنّ قوى إقليمية ودولية أخرى تفضّله على البرهان. إنّها بوادر صراع إقليمي ودولي مفتوح على السودان؛ تتقاطع فيه توازنات القوى والمصالح في منطقةٍ تمتد على طول الساحل والقرن الأفريقي والبحر الأحمر. ويمكن القول إن ذلك كله يجعل السودان أقرب إلى السيناريو اليمني، أولاً بسبب ميزان القوى المتكافئ بين الطرفين المتحاربيْن، وثانياً بسبب وجود قوى إقليمية ودولية تتباين أجنداتها، وتتحيّن الفرص للاستثمار في النزاع واستخلاص عائداته السياسية والاقتصادية، بما لا يتعارض مع مصالحها، وفي مقدمتها مصر وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، وكذلك روسيا التي تشكّل، عبر مجموعة ''فاغنر''، مصدرَ دعم بالنسبة لحميدتي، بسبب سيطرته على بعض مناجم الذهب التي تستثمر فيها هذه القوات باتفاق معه.

سيحول تحقق السيناريو اليمني النزاع إلى حربٍ بالوكالة، وسيفتح الباب على مصراعيه أمام تفكيك السودان وتقسيمه إلى دويلاتٍ وجماعاتٍ قبليةٍ وعرقيةٍ متناحرة، ما ينذر بتطوّرات دراماتيكية قد تأتي على الأخضر واليابس في بلدٍ كانت مشكلةُ الاندماج الوطني دائما تتصدّر أولوياته منذ استقلاله عام 1956.

توحي كل المؤشّرات، إلى غاية كتابة هذه السطور، بأن السودان ينزلق إلى هاويةٍ بلا قرار. ومؤكّد أنّ ذلك يُعدُّ ضربةً قاصمةً للتطلّعات التي عقدها السودانيون على ثورتهم التي أطاحت حكم عمر البشير، ومسماراً آخر في نعش ثورات الربيع العربي المغدورة.