إلى أين تتّجه فرنسا؟

20 يونيو 2024

فرنسيون يتظاهرون في باريس ضد اليمين المتطرّف بتنظيم "الجبهة الشعبية" (15/6/2024 فرانس برس)

+ الخط -

تعيش فرنسا حالة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي، على بعد عشرة أيام من الانتخابات التشريعية المبكرة، التي أعلن عن إجرائها الرئيس إيمانويل ماكرون، بالموازاة مع قراره بحلّ الجمعية الوطنية، بعد فوز اليمين المتطرّف في الانتخابات الأوروبية. ولعلها تزيد من حدّة هذا الاستقطاب الخلافات التي تعصف باليمين واليسار على حد سواء. وهو ما يضع الدولة والنخب والمجتمع أمام امتحان عسير، تتقاطع عنده تحدّيات داخلية وإقليمية ودولية.

وتُنبئ معظم التوقعات بأن اقتراع 30 يونيو/ حزيران الجاري سيشهد منافسة شديدة بين ''الجبهة الشعبية الجديدة'' التي تضم أحزاب اليسار الأربعة: فرنسا الأبية، الحزب الاشتراكي، الحزب الشيوعي، حزب الخضر من جهة، وحزب 'التجمع الوطني، اليميني المتطرّف من جهة أخرى. وهو ما أكّده استطلاع رأي أجراه، قبل أيام، المعهد الفرنسي لدراسات الرأي والتسويق (IFOP)، حيث حلَّ ''التجمّع الوطني'' أوّلَ بـ 33% متبوعا بـ ''الجبهة الشعبية الجديدة'' بـ 28%، ثم حزب الأغلبية الرئاسية بـ 18%.

يعكس هذا الاستقطاب، حسب كثيرين، الحاجة لتعديل بوصلة السياسة الفرنسية التي تنعطف بسرعةٍ نحو أقصى اليمين، من دون أن يكون لدى النخب الفرنسية مشروع سياسي ومجتمعي واضح لمجابهة المد اليميني المتطرّف، والحد من تمدّده الهادئ وسط فئات واسعة داخل المجتمع، فالبرنامج الانتخابي للجبهة الشعبية الجديدة، وإنْ ينصبّ على معالجة مشكلات اقتصاديةً واجتماعيةً وبيئيةً متراكمةً، فيما يبدو ثورةً مؤسّسيةً على الأوضاع القائمة في فرنسا، إلا أن واقع الحال يُنبئ بصعوبة إقناع هذه الفئات بجدوى البرنامج وقدرته على إحداث التغيير، في ظل ما وصلت إليه السياسة الفرنسية من ركود. ذلك أن دعم التعليم المجاني، وإصلاح نظام التقاعد، واستعادة القوة الشرائية للمواطنين، وإصلاح النظام الصحّي، وتَضْريب الثروات الكبرى، ودعم الفئات والأسر الفقيرة، على أهميته كله، قد لا يقنع الناخبين الفرنسيين الذين يروْن في ذلك مجرّد كلام موجّه للدعاية الانتخابية، يسعى منه الائتلاف اليساري الجديد إلى تشتيت الأصوات في اقتراع نهاية الشهر، ما يعني ضمناً قطع الطريق على اليمين المتطرّف كي لا يتصدّر نتائج الانتخابات، ويصبح رقما رئيسا في معادلة السلطة والقوة في فرنسا. هذا إضافة إلى أن الظروف الاقتصادية، التي تتحرّك ضمن ظرف اقتصادي دولي محكوم بارتفاع معدّلات التضخّم والبطالة وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وحرب غزّة، لا تسمح بتمويل مخطّطات اجتماعية ''ثورية'' كالتي تضمّنها البرنامج الانتخابي للائتلاف اليساري.

بالموازاة مع ذلك، هناك اختلاف بين مكوّنات الجبهة الشعبية، سيما فيما يتعلق بشخصية الوزير الأول في حالة تصدُّر اليسار نتائج الانتخابات، بسبب غياب شخصيةٍ تحظى بالتوافق داخل الجبهة وقادرةٍ على قيادة الحكومة الفرنسية المقبلة، هذا فضلاً عن خلافاتها بشأن الحرب الروسية الأوكرانية وحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة.

يسابق الرئيس ماكرون الزمن للحفاظ على التوازنات الحزبية والسياسية القائمة، لأن تصدُّر اليمين المتطرّف نتائج الانتخابات التشريعية المرتقبة سيخلط الأوراق في السياسة الفرنسية، وقد يعيد هيكلة المشهديْن الحزبي والسياسي بالكامل، كما أنه سيضع الاتحاد الأوروبي، بكل ثقله الجيوسياسي، في مفترق الطرق، بالنظر إلى أهمية ''السيادة الوطنية'' في برامج تشكيلات اليمين المتطرّف في أوروبا. وإذا كانت الخلافات التي بدأت تظهر داخل المعارضة اليمينية الفرنسية تصبّ في مصلحة أحزاب اليسار، فذلك لا يغيّر من واقع الأمر شيئا، كون فرنسا تجابه اختبارا عسيرا لا يتعلق فقط بها دولة ومجتمعا، بقدر ما يتعلق أيضاً بدورها فاعلا رئيسا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي. وقد أكّدت المسيرات التي شهدتها مدن فرنسية، نهاية الأسبوع الفائت، ضد اليمين المتطرّف، هذا الواقعَ، على اعتبار أن ذلك قد يفسح المجال أمام انقسام داخل المجتمع، فصعود اليمين الفرنسي المتطرّف في الانتخابات الأوروبية كان عبر صناديق الاقتراع، الشيء الذي يجعل دعوة شخصيات يسارية ونقابية فرنسية للتعبئة ''من أجل حماية الديمقراطية'' تنطوي على قدرٍ غير يسيرٍ من التخبّط الأيديولوجي والسياسي.