السودان حلقة في مسلسل إخفاقات الربيع العربي
تابعتُ قبل أيام نقاشا عابرا ومعتادا بين مصرييْن في أحد الأسواق. كان الأول يشكو من الحال وارتفاع الأسعار وتغلغل الفساد، ومن أن الحياة أصبحت أكثر صعوبة مقارنة بعهد حسني مبارك وما قبل ثورة يناير، وهي الشكوى التي يتداولها الناس كثيرا في مصر هذه الأيام. فيما كان الثاني يتفاخر بتأييده للسلطة ويحاول تعديد المميزات غير المسبوقة، مثل الأمن والأمان والقضاء على الإرهاب وإفشال المؤامرات الدولية. وبالطبع، لم يغفل ذكر الطرق والكباري الجديدة، وكيف أنها وفرت وقتا كثيرا عند التنقل داخل القاهرة، وفجأة أضاف عبارة استوقفتني كثيرا، عندما قال إن ما يحدث في السودان مؤامرة دولية للسيطرة على مصر، بعدما فشلت كل المؤامرات السابقة.
لم أفاجأ كثيرا بالمنطق الذي يحكم طريقة تفكير مؤيدي السلطة في مصر، فنظرية المؤامرات هي الأساس لتفسير كل الظواهر الكونية، فثورة يناير وكل ثورات الربيع العربي هي مؤامرة من وجهة نظرهم لتفكيك الجيوش العربية، على الرغم من أن الفائدة الأوضح لتلك الثورات والانتفاضات كانت لصالح الجيوش والطبقة العسكرية وامتيازاتهما في كل دول المنطقة التي مرّت بتجارب الثورات.
والادّعاءات بأن ما يحدث في السودان مؤامرة غربية على السودان أو مصر أو الدول العربية تصوّر مضلّل، ويُراد به باطل كالعادة. ينسجم ذلك الطرح مع روايات أبواق السلطوية في الوطن العربي طوال السنوات السابقة، ووصمهم تطلعات الشعوب نحو العدالة والديمقراطية بأنها كانت مؤامرةً غربيةً ولم تكن عفوية، أو تحميل النتائج الحالية في العراق واليمن وسورية والسودان للانتفاضات العربية، وليس ما كان قبل تلك الانتفاضات، متجاهلين تعقيد الوضعين القبلي والعقائدي في العراق أو دور بشّار الأسد في إحداث الفوضى المتعمّدة وأسلمة الثورة، وكذلك دور الرئيس الأسبق لليمن، علي عبدالله صالح، الذي تحالف مع خصومه الحوثيين المدعومين من إيران، بهدف استعادة سلطته قبل أن يغتالوه هو شخصيا ليسيطروا بعدها على معظم اليمن، وما يحدُث في السودان ليس وليد اللحظة الحالية، ولا هو فقط نتيجة غياب السلطة المركزية، لكن الوضع معقد فيه تراكمات عشرات السنين من ديكتاتورية عسكرية بصبغة دينية أدّت إلى انفصال الجنوب وتمرّد الغرب حتى وصل الحال إلى ما هو فيه.
الثورة ليست السبب فيما يحدث، كما يزعم أنصار الأنظمة السلطوية، بل هو الحكم السلطوي المركزي الذي استمرّ عقودا طويلة قبل ذلك
الوضع في السودان مرعب، تتوالى الأخبار المؤسفة كل يوم، حيث القتل والاغتصاب ونهب الممتلكات والقتل العشوائي، وتدمير المصانع والمساجد في بلد يعتنق سكانه الإسلام الذي يحرم مثل تلك الممارسات. يدخل الصراع أسبوعه السادس بدون أي بوادر للهدنة أو الحل السلمي، فالطرفان يرفضان أي محاولة لوقف إطلاق النار، ويعتقدان أن النصر قريب ، والخاسر الأكبر هو الشعب السوداني ووحدة أراضيه.
الأغلبية من نشطاء الثورة وقوى الحرية والتغيير في السودان يرفضون استمرار الحرب منذ البداية، وإنْ هناك أيضا محسوبون على الحراك السوداني ومطالب الحرية، ولكنهم، في الوقت نفسه، منحازون لأحد طرفي الصراع المسلح في السودان، فهناك من أعلن تأييده قوات الدعم السريع بذريعة إعادة الحكم إلى القوى المدنية، أو بذريعة تطهير الجيش الرسمي من الكيزان (جماعة الإخوان المسلمين)، وكأن قوات الدعم السريع ومليشيات الجنجويد تتبنى الديمقراطية وحقوق الإنسان مع كل تاريخها الحافل بالمجازر والجرائم ضد الإنسانية. وهناك أيضا نشطاء محسوبون على قوى التغيير أعلنوا انحيازهم لرئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، حتى إن كانوا يعارضون سياساته في الفترة السابقة، أملا في توحيد القوات المسلحة السودانية، وأملا في وقف تلك الفوضى وازدواجية القوات في السودان.
يتجاهل أنصار نظرية المؤامرة أن المؤامرة قد لا تكون كلها من الخارج، بل الأسباب الرئيسية للأزمة وتطوراتها كامنة في الداخل أولا
كان كل من طرفي الصراع المسلح يعتقد أنها حربٌ خاطفة ستؤدّي إلى انتصار سريع والإجهاز على الطرف الآخر، خصوصا مع ورود تقارير صحافية جاءت عن تدخل أطراف إقليمية لدعم هذا الطرح أمام الآخر والعكس، كحرب جديدة بالوكالة في المنطقة، أطراف كثيرة تطمع في السودان. والثورة ليست هي السبب فيما يحدث، كما يزعم أنصار الأنظمة السلطوية، بل هو الحكم السلطوي المركزي الذي استمرّ عقودا طويلة قبل ذلك، وهو الذي سمح بتلك الفوضى، وأيضا بالتدخلات الإقليمية. وتتحدّث تقارير دولية أخرى عن دور قائد قوات الدعم السريع، حمدان دقلو (حميدتي) في إرسال مليشيات لليمن لمساعدة القوات الإماراتية، وتتحدّث أخرى عن ثروات حميدتي عن طريق استخراج الذهب وتصديره إلى الإمارات، وأن تلك الثروات التي تمكن من السيطرة عليها واستثمارها في الإمارات مكّنته من إنشاء قوات عسكرية أكثر تنظيما وتسليحا وجهوزية من القوات المسلحة الرسمية.
ترفض القوى المدنية في السودان استمرار الحرب، ويرفض أغلبها الانحياز لطرف على حساب آخر، وطالبت مرارا وتكرارا بحلّ مليشيات الدعم السريع وإدماجها في الجيش النظامي، لكن رد البرهان وكثيرين من قادة الجيش النظامي وقتها أن لا داعي للقلق، فتلك المليشيات في طريقها إلى تقنين أوضاعها. وبعد أن وقعت الفأس في الرأس، وحدثت المواجهات المتوقعة بين القوتين العسكريتين، ليس هناك حل أمام القوى المدنية غير التكاتف وتوحيد الجهود، لوقف الحرب، وكذلك وقف ذلك الازدواج في القوات المسلحة، ولن يحلّ ذلك عن طريق الحرب التي ربما تستمر عشرات السنوات، كما حدث مع تجارب أخرى في المنطقة.
يتجاهل أنصار نظرية المؤامرة أن المؤامرة قد لا تكون كلها من الخارج، بل الأسباب الرئيسية للأزمة وتطوراتها كامنة في الداخل أولا، وما كان على الخارج إلا استغلال بعض الأطراف المتناحرة، فقوات الدعم السريع لم تهبط من المرّيخ، بل تشكّلت في منتصف الثمانينيات بمعرفة الرئيس المعزول عمر البشير وتسهيلاتٍ منه. في ذلك الوقت، بدأت الحركات المعارضة المسلحة للبشير في دارفور بسبب الإهمال والتهميش وسوء التعامل من حكومة الخرطوم في وقت الجفاف، بالإضافة إلى انشغال حكومة الخرطوم بالحرب مع جوبا وجنوب السودان، وزاد في الطين بلة تدفقُ آلاف اللاجئين من تشاد إلى دارفور بعد بدء الاضطرابات والصراعات هناك.
الوضع في السودان مرعب، تتوالى الأخبار المؤسفة كل يوم، حيث القتل والاغتصاب ونهب الممتلكات والقتل العشوائي
قتل الصراع في دارفور ما يقدر بنحو 200 ألف شخص، وأدى لنزوح 2.5 مليون من منازلهم، بالإضافة للنهب والسلب والاغتصاب والقتل حسب الهوية، وهو ما وثّقته الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية وعدة منظمات حقوقية في ذلك الوقت. وجدير بالذكر أن تشكيل تلك القوات كان برعاية الرئيس السابق عمر البشير نفسه، بعد توحيد عدة مجموعات من مليشيات الجنجويد تحت اسم قوات الدعم السريع قبل سنوات قليلة، تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات السوداني. وتمثلت مهمة هذه القوات في القضاء على الجماعات المتمرّدة في البلاد. ووقع اختيار البشير في عام 2013 على محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، وهو من قبيلة الزريقات الأبّالة، ليتولى قيادة قوات الجنجويد، وبعد عام، جرى ضم قوات الدعم السريع لتعمل ضمن القوات المسلحة السودانية بشكل قانوني. وتولى العسكريون النظاميون في السودان دورا مهما في عمليات التجنيد والتسليح والتدريب، وكذلك توفير غطاء جوي وبري لقوات الدعم السريع في أثناء ارتكاب مجازر التطهير ضد قبائل دارفور. وها هو السحر ينقلب على الساحر، ويبدأ العسكر حربا أهلية جديدة قد تمزّق السودان، طمعا في الثروات والسيطرة والحكم المطلق.
يلوم بعضهم وسائل التواصل قوى الحرية والتغيير في السودان على أنها التي أعطت الفرصة للعسكر للتوغل في الحكم بشكل أكبر منذ البداية، وأنه كان على قوى الحرية والتغيير أن تكون أكثر فطنة وحيطة بعدما عايشوا ما حدث من قبل في مصر ثم تونس، ولكن في ذلك ظلما كبيرا لقوى الحرية والتغيير، فقد كانوا أكثر نضجا من نظرائهم في مصر أو تونس، ونشهد أنهم حاولوا تجنب مصير الثورة المصرية ووضعوا أخطاءنا في الاعتبار. ولكن تحالفات السلطوية والثروة يحدُث أن تكون أكثر قوة، خصوصا مع وجود أطراف عربية لديها الاستعداد لإنفاق المليارات من أجل وأد كل التجارب الديمقراطية في مهدها، ويقول مثل ذائع إن الكثرة تغلب الشجاعة. ولكن تلك التجارب أو الانتفاضات، رغم فشل معظمها، ستؤثر كثيرا في تطور التجارب والمحاولات على المدى البعيد.