السعوديون .. البعد العروبي الإنساني الآخر
في ذروة الاستفزاز الذي مارسته الحكومة السعودية أخيرا، تصدّعت علاقات العروبة الإنسانية مع أبناء الوطن العربي. ولن تكون مهمة هذا المقال المضي في النقد السياسي للحكم الحالي، وإنما الحديث عن ذلك المنظور الآخر الذي ربما لم يعرفه بعض العرب، وربما عرفوه، لكنه توارى في مشاعرهم بعد جولة العنصرية التي مارستها، أخيرا، أطقم الحكم المتعدّدة في الإعلام.
فقدت السعودية، حتى دولة ونظاما، مساحة ضخمة من الاحترام الاعتباري، وخصوصا بعد جولة الضرائب الشرسة التي مُزجت بالخطاب العنصري، وتسبّبت في حركة هجرة معاكسة، خرج فيها الأشقاء العرب الذين عشنا معهم، ومع أبنائهم الذين ولدوا في السعودية كأبناء وطن واحد، لم يظنوا يوماً أنهم سيغادرونها، وهم، إلى هذه اللحظة، يستشعرون غربةً عن أقاليم السعودية التي احتضنتهم واحتضنوها، في مرابع الشرق أو الغرب أو الوسط، أو حيث كانت منازلهم في القارّة العربية التي تشكلت الدولة السعودية على جغرافيتها.
ومن هذا المنطلق، أي هذه الأقاليم المتعدّدة العربية الواسعة، نبدأ الحكاية الأخرى، فقد ظل هذا الأمرُ، طويلاً، سؤال المأزق الكبير في الوجدان العربي للسعوديين، حيث كانت هناك إشكالية عميقة، وخصوصا في تيارات الكفاح العربية، وشملت رواقاً من الإسلاميين، هل نحن دولة عربية تستمد وطنيّتها من عروبتها التي تمتد على جغرافية الجزيرة العربية، أم نحن دولة جغرافية خاصة بالأسرة السعودية، العروبة والإنسان والتاريخ، لا قيمة له إلا من خلال العلاقة مع أسرة الحكم.
سعت شخصيات عديدة من الأقاليم السعودية المختلفة إلى إقناع الأمراء والملوك بأن مواطنة السعوديين تعتمد على التاريخ العروبي للجزيرة
وقد ظلّت المنظومة الثقافية الحاشدة للدولة تكثّف صناعة المواطنة الثانية، على الرغم من أن شخصيات عديدة من الأقاليم السعودية المختلفة، سعت إلى إقناع الأمراء والملوك بأن مواطنة السعوديين تعتمد على التاريخ العروبي للجزيرة، وعبر الرسالة الإسلامية، كقيم ووحدة وحضارة ورسالة، وليس كمذهب عقدي فرزي يؤطّر بالدعوة الوهابية، هو أفضلُ للدولة، وأكثرُ تأثيراً لها، في صناعة المواطنة وفي الموقع العربي والحضاري في العالم. ولكن هذا الصوت لم يوجد له صدى في مركز القرار، فهو أمرٌ يعتمدٌ على تاريخ الأيديولوجيا الشخصية للملك عبد العزيز الذي أضحى سياسة دولة، وهذا قد يتكرّر في دول عربية وخليجية، ولكن في الحالة السعودية حتى اسم المواطنة (سعودي) يرتبط بالأسرة، ورغم ذلك تجاوزت هذه الشخصيات المتعددة هذا الشكل، وسعت إلى صناعة مضمون فكري، تعريباً وأنسنة له، لكن من دون جدوى، فظلّت الآلة الإعلامية والخدمية والسياسية والاقتصادية تركّز على المواطنة التي تعني صناعة الذات في وجودية الأسرة الحاكمة، وليس في شراكتها، ولا حتى في مواطنته الكيانية لدولة مرتبطة بالأسرة.
ظلّت الآلة الإعلامية والخدمية والسياسية والاقتصادية تركّز على المواطنة التي تعني صناعة الذات في وجودية الأسرة الحاكمة
اخترق هذا الضخ، أحياناً، وجدان مثقفين إصلاحيين، من دون شعورٍ بتمكّنه داخلهم، وإن طارت بتعاليمهم الديمقراطية أو العروبية الصحف، فهو ينظر إلى بقية الأقاليم أو أسرة مواطنته بجاذبية أحدثها الحكم السعودي، وليس كإنسان العروبة والمكان، الذي يُجاوره، ولا يعترف هذا المثقف بالتشكل التاريخي الاجتماعي لهذا الإنسان أو الإقليم، المعرفية والأخلاقية، وإنْ كان يكتب في إطار نهضوي أو ليبرالي. والذي التقط هذا المضمون، وحاول تصحيحه إلى واقع صريح في العلاقات الإنسانية والاجتماعية، هو قائد الحركة الوطنية، الشهيد عبد الله الحامد، الذي لم يُنصفه الزمن رحمه الله. والحديثُ ذو شجون عن رحلته الغنية الثرية، بالفهم والأنسنة وإعادة صناعة المواطنة المختلفة. وهنا يؤخذ في الاعتبار المزيج الذي شاركه أبو بلال مع القوميين واليساريين السعوديين، ومع الفكرة الإسلامية النهضوية التي تحوّل لعمقها، من خلال أرضية عروبية، ومفاهيم حقوقية ديمقراطية، فلم يكن يوماً تحت أي تكتلٍ ديني، فهذا المزيج يُضاف إلى روحه النضالية وكاريزميته الشخصية البسيطة التي اكتسبت حبا واحتراما وقناعة كبيرة على مستوى الأقاليم وثقافاتها، وإنْ بقيَ فرداً في أمته الوطنية، مع رفاقه القلة، ومنفرداً في زنزانته واستشهاده.
الغريب أن هذا الأمر، أي إعادة التموضع عروبياً للسعوديين، التقطه أحد أبرز الشخصيات الرسمية للدولة السعودية، وهو الراحل عبد العزيز التويجري، الرجل الأول في رحلة الملك عبد الله إلى الحكم، وهو مثقف عميق، من دون أن يكون له أي تعليم أكاديمي، غير أن خطة التويجري، الشايب كما يُطلق عليه، كانت تعتمد على تحقيق هذا المسار لصالح النظام السعودي ذاته، من دون أن نُلغي روحه الذاتية، أو علاقاته الشخصية الفكرية مع مثقفين عرب، وتبقى مسؤوليته السياسية تحت حساب التاريخ. عزّز هذا المسار، من خلال مهرجان الجنادرية، ودُعيت شخصيات قومية كثيرة، ناصرية وبعثية ويسار قومي عربي، إلى المهرجان. وقد قرأتُ له، في هذا الصدد، ما يُشبه البيان الفكري الذي سعى فيه إلى تكريس قيادة السعودية القومية العربية، كونها جغرافية العرب الأولى. ولكن من دون أن ترتبط فكرته بالأيديولوجيا القومية، ويُعتقد أن التويجري (الشايب) كان له دور في استقبال الأمير عبد الله (كان حينها ولياً للعهد) الإصلاحيين واستلام خطاب الرؤية، والذي حال دون تحفّز وزير الداخلية ونجله في حينه لسحقهم.
مهمة عبد العزيز التويجري فشلت في مضمار تحوّل السعودية مركزا قوميا جديدا يستند لعروبته التي احتضنت الإسلام
ولكن مهمة التويجري فشلت، على الأقل في مضمار تحوّل السعودية مركزا قوميا جديدا يستند لعروبته التي احتضنت الإسلام، فقد شارك المدعوون الذين كان بعضهم يشاتم النظام السعودي طويلاً، من خلال صراعه الأيديولوجي، أو من خلال موقفه المبدئي، كون السعودية شريكا مركزيا للسياسات الإمبريالية، وغير ذلك من قضايا خلاف للقوميين العرب وغيرهم مع الرياض. ولكن هذه المشاركة لم تتحول إلى مشروع، فالأسرة السعودية الحاكمة ذاتها لا تسمح بمشروعٍ يُضعف أيديولوجيتها، فتحولت بعض العلاقات إلى زيارة شراكة ثقافية وتقاطعاتٍ كانت، في بعض مواسمها، إيجابية لجمهور الجنادرية، وبعضها إلى علاقات نفعية تماماً، لتزكية الدولة السعودية، وبعضهم انقطع ورفض المواصلة مع الكرنفال الجديد الذي حُبس في جدران الجنادرية.
كانت هذه مقدّمة لحكاية مهمة، لتاريخ إنسان الجزيرة العروبي وإنصافه الأخلاقي.