الساكت عن الحق

09 أكتوبر 2020
+ الخط -

تسكت الشقيقة الكبرى، العربية السعودية، عن الحق، ولا تنبس ببنت شفةٍ، وهي تشهد كل ما يجري في الساحة العربية من خرابٍ تقترفه الإمارات العربية، بدءاً من تقسيم اليمن واحتلال أراضيه وانتهاءً بالتوقيع على اتفاقيات الخزي مع الكيان الإسرائيلي، في خروجٍ سافر عن المبادرة العربية، أو على الأصح، المبادرة السعودية التي قدّمها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز للقمة العربية في بيروت العام 2002. تَصْمت السعودية، تدفن رأسها في الرمل، وكأنها لا ترى ولا تسمع كل العبث الجاري على تخوم حدودها الجغرافية والأمنية. لا تحرّك ساكناً، تبلع ألسنتها، ولا تفسير لصمتها إلا رضاها بعبث إمارة أبوظبي الصغيرة بالقضايا العربية الكبيرة. 

تصمت الشقيقة العاقلة عن خيانة بعض العرب القدس، أولى القبلتين، والشقيقة الثالثة للحرمين الشريفين، وكأن الأمر لا يعنيها، متذرّعة باحترام القرارات السيادية للدول المعنية. وعندما تتحدّث، لا تقدر على أكثر من القول، واجترار شعارات خاوية، تؤكد على التزام المملكة بدعم الحقوق الفلسطينية، والتمسّك بالمبادرة العربية. أما فعلاً، فلا تتردّد الرياض في إسقاط مشروع قرار فلسطيني يطالب الاجتماع الوزاري العربي الـ154 في مقر جامعة الدول العربية بإدانة توقيع الإمارات العربية والبحرين اتفاقات تطبيع مع إسرائيل. 

لا ترفع السعودية صوتها، ولا تطلق أبواق إعلامها، إلا للتطاول على الفلسطينيين قيادة وشعباً. مرّة تنشر ذبابها الإلكتروني لينفث سمومه في الفضاء العربي، زاعماً كل باطل، موغلاً في تزوير التاريخ والحاضر، كاذباً في ترويج مستقبل زاهر أساسه السلام مع إسرائيل. في أحدث حلقات الإفك، وليس آخرها، يظهر الأمير بندر بن سلطان، الذي شغل مناصب سفير بلاده في واشنطن، ورئيس جهاز الاستخبارات السعودية، والأهم من ذلك نجم فضيحة صفقة "اليمامة"، ليكيل الشتائم للقيادات الفلسطينية، لا لشيء إلا لأنها ترفض خروج دول عربية عن إجماع عربي، تزعم السعودية أنها تتمسّك به. وبدلاً من تقريع أبوظبي والمنامة على تجاوز الشقيقة الكبرى، والقفز على مبادرة مليكها، يتهجّم الأمير السعودي على الحيط الواطئ، على الشعب الفلسطيني، وكأن المطلوب من هذا الشعب تقديم آيات الشكر والامتنان على طعنات متتالية يسدّدها في ظهره، وفي صدره، أشقاء أشقياء. ولكن هل لنا أن ننتظر غير ذلك من أمير سبق له السمسرة على وطنه بحفنة دولارات، عندما تلقّى، حسب تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، يوم 7 يوليو/ تموز 2007، أكثر من ملياري دولار على مدى عقد، عمولات مقابل دوره في إبرام صفقات مبيعات أسلحة من بريطانيا إلى السعودية بدأت عام 1985. 

ليت العربية السعودية تكتفي بالسكوت عن كل ما يقترفه مسوقو التطبيع وسماسرته، حماة الثورات المضادة بحق القضايا العربية العادلة في فلسطين واليمن وسورية وليبيا ومصر. وليتها لا تكسر هذا الصمت بما هو أشدّ كفراً ونفاقاً نراه ونسمعه يتدفق من مجار إعلامية تقتات من ميزانياتٍ كان الأوْلى صرفها على تنمية البلاد وتطوير العباد. وليت أمراء الشقيقة الكبرى يحفظون أمانة وإرث أجدادهم، من الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز (1964-1975)، الذي تمنى الموت شهيداً في سبيل الدفاع عن القدس، إلى الملك سلمان، الذي أكد غير مرة على "موقف المملكة الثابت من القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني منذ عهد الملك عبد العزيز".

من حقوق السعودية السيادية التعبير عن مواقفها كيفما شاءت، ومواءمة سياساتها مع دواعي مصالحها القُطرية. ومن حقها التخلي عن دورها الإقليمي ومقعدها الأمامي في قيادة المنطقة، والقبول بالمقاعد الخلفية العاجزة عن صد الانهيار، ولو بالقلب أو اللسان، وذلك أضعف الإيمان. ولا يُنكَر خيارها بالسكوت عن الحق ومجاورة الشيطان الأخرس، إن شاءت. ولكن ليس من حق أمراء السعودية وذبابها البشري إنكار حقيقة أن الفلسطينيين قدّروا المبادرة السعودية، على ما فيها من ظلم، بينما رماها حلفاء الرياض في مزبلة التاريخ.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.