الرّقة والغنم وأم كلثوم
تداولت الصحافة المحلية، قبل أيام، خبراً عن انخفاض أسعار الغنم في محافظة الرّقة... إنّه خبر عادي بالطبع، ففي سورية تنخفض أسعار الأشياء التي يمتلكها المواطن، وترتفع أسعار السلع التي يستهلكها... يذكر محسوبُكم أنّنا كنا، عندما ينخفض سعر اللحم، عندنا في المناطق الشمالية، نتساءل عن السبب، فيقال لنا إنّ الأمطار في الرّقة والجزيرة، هذه السنة، قليلة، والمرعى مجدب، و"الغنم غَرَّبَتْ" بمعنى أن أصحابها ذهبوا بها غرباً، وباعوها، في مناطقنا، بثمن بخس.
في الخبر أشياء أخرى مثيرة؛ منها أنّ الضرر الناجم عن انخفاض سعر الغنم يصيب أهالي محافظة الرّقة التي بقيت مهملة، ومنكوبة، طوال سني حكم الأسد ووريثه، وزاد في طنبوريّها نغماً أنّ تنظيم "داعش" احتلّها، وجعل علمَ تنظيم القاعدة الأسود يرفرف في سمائها. ولأجل ذلك، شكلت أميركا تحالفاً دولياً جوياً، لم يتمكن من دحر "داعش" حتى صارت الرّقة ركاماً على الأرض.
في فيلم "سَلّامة" الذي أنتج سنة 1945، وهو الخامس الذي تلعب فيه السيدة أم كلثوم دور البطولة، يكيل الشاعر الغنائي الكبير، بيرم التونسي، المديح للغنم، خلال أغنية "سلام الله على الحاضرين" التي لحنها الشيخ زكريا أحمد، وتقول: "رعينا الغنم وسقناها/ وكَمْ بالعصا ضربناها/ لقينا الغنم/ تحب الطرب/ ولو تنشتم/ ولو تنضرب/ فلا فحلها قليل الأدب/ ولا كبشها سريع الغضب". وتنتهي الأغنية بفرض عقوبةٍ مذلة على الرجل الذي أساء للأغنام، وهي أن "يبوس القدم/ ويبدي الندم/ على غلطته بحق الغنم".
ولكنّ البشر، منذ فجر التاريخ، لم يرأفوا بالغنم، إذ جعلوه جزءاً أساسياً من طعامهم، وهو طعامٌ فاخر، يتوفر على موائد الأغنياء، ولا يأكله الفقراء إلّا في المناسبات السعيدة، ويتباهى أهل العزّ والجاه بتناوله، بدليل ما يغنّى في الأعراس ضمن أغنية "أوف مَشْعَل": "ردّوا غنمكم ما حدا ظلمكم، حبي عزمكم دَبَّاحْ الخرفانِ". ومما تغنّي نجاح سلام برفقة حسن عبد النبي: "حَوِّل يا غنام حول/ بات الليلة هين...". ولعلّ أطيب أنواع لحم الغنم هو "العَوَاس" الذي كان وزير الخارجية السوري الراحل، وليد المعلم، يعشقه، ويترنّم به. وللعلم، إنّنا - نحن السوريين - لم نكن نعلم بوجود أنواع أخرى، حتى الثمانينيات، عندما شنّ النظام السوري حرباً واسعة على الشعب السوري، بذريعة محاربة جماعة الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة. وفرضت أميركا، وبعضُ الدول الأوروبية، عقوبات على نظامه أدّت إلى فقدان كلّ شيء. وحتى الغنم السوري الذي كان متوفراً ما عاد يكفي، وصار بعض التجار يستوردون أغناماً من تركيا تحمل اسم "البيلّا". والقصّابون يميزون بين النوعين من خلال الإلية، فالعواس ذو إلية كبيرة، بينما إلية البيلا صغيرة، فكأنّها ذنب معزاة.
لم يكن وليد المعلم أول من أدخل الغنم إلى أدبيات السياسة من خلال ترنمه بلحم العواس، فمنذ استولى حزب البعث على السلطة، بانقلابٍ عسكري، لا يزور مسؤول (وإن كان من الدرجة الخامسة) مدينة أو بلدة أو قرية، إلا وتُبطح الخراف أرضاً، وتنزل السكاكين في أعناقها. وفي أيام الانتخابات، سواء الخاصة بالمجالس المحلية، أو مجلس الشعب، تُرتكب مجازر كبرى بحق جنس الغنم. وإذا أنت نظرت إلى السرادقات التي تقام أيام الانتخابات، ستجد الموائد الطويلة مكتظّة بمناسف الغنم مع الرز والفريكة. وقد صوّر رسام كاريكاتير، ذات يوم، ناخباً يضع ورقةً في صندوق الانتخاب، وقد كتبت عليها كلمة "ماع". ولعلّ أظرف ذبحٍ للخراف هو الذي يحصل قبل انتخابات مجلس الشعب بيومين. وبالتحديد، عندما تصدُر قوائم الجبهة الوطنية (التقدمية)، فوقتها تُعرف أسماء الواصلين إلى عضوية المجلس، وكفانا الله شر الانتخابات.
عندما يخضع شعبٌ ما لظلم كبير، ويبقى ساكتاً، يقال: شعبٌ غنم. ولكنّ الشعب السوري ليس غنماً، بدليل امتلاء السجون بأبنائه، والمقابر بجثثهم.