الرعب اللبناني
التفاؤل مرض العصر في لبنان، والتشاؤم واقعي. يُمكن لمثل هذه المقاربات أن تصف مجريات اليوميات اللبنانية. لم يعد اللبنانيون هؤلاء "الأشدّاء" القادرين على التأقلم مع كل متطلبات الحياة، وإن بدوا كذلك في الظاهر. لا يزال هناك من يرفض التصديق أنه يقف يومياً في طوابير لملء سيارته بالوقود، وبعض يصابون بالرعب، حين يُسألون: "ماذا بعد؟". والجميع يخشون نفاذ ما تبقى من الأدوية في الصيدليات. "نهاية عالم" لبنانية تلوح في أفق بلادٍ لم تحلم أن تصل يوماً إلى مثل هذا الدرك من الانحطاط. وخلال ذلك كله، تقع عيناك على علم لبنانيٍّ يرفرف على طريق ساحلي، شماليّ العاصمة بيروت، وتستذكر ما تعلمته في كتب التاريخ المدرسية، الناقصة حتى بسبب الخلافات بين الجماعات اللبنانية على توحيدها: قدموس والأبجدية، الفينيقيون وغزو البحار، متصرّفية جبل لبنان، مجاعة 1914، لبنان الكبير، ميثاق 1943، غزوات واحتلالات وحروب وانفجارات واغتيالات، نظام مصرفي فضفاض، المارونية السياسية والتهميش المسيحي، الحرمان الشيعي والغبن السنّي والصعود إلى السلطة، القلق الدرزي وانعزاله، أمراء حرب، رجال أعمال، الفساد والكثير منه، الهدر والتنفيعات، القوانين المسخّرة لمصلحة أطراف وأحزاب، سورية وإيران والسعودية، الولايات المتحدة وفرنسا. غريبٌ ما يمكن لعلم يراقص الهواء فعله في تحفيز جزء واعٍ في الدماغ، لإخراج كل ما هو ساكنٌ في اللاوعي، وغريبٌ أكثر أن هذا التحفيز لا يُساهم في التفكير بحلّ ما، بقدر ما أنه يضع الإنسان في حالةٍ من التفكير العشوائي، على قاعدة أن "ما نمرّ به لم يحصل قط في التاريخ. وبالتالي، نقع فريسة الارتباك الذي لا يسمح لنا في فعل شيء".
صحيحٌ أن زائر لبنان، في حال حصل، سيجد أمامه مطاعم مزدحمة بالمقيمين في البلاد لا المغتربين وما تبقّى من السيّاح، وسيارات فخمة تجوب الطرقات، وأشخاصاً يرتدون ثياباً باهظة الثمن، وآخرين يستأجرون شاليهات وشققاً بأسعار عالية وبالدولار. سيجد ذلك كله، وسيحاول التمييز بين ما يسمعه (ويقرأه) وما يراه. طبيعيّ هذا الأمر. في النهاية، في كل حروب واشتباكات، ومدن تصنّع المخدرات وتهرّبها، ومجموعات تخالف القوانين لنهب مقدرات البلاد، تولد طبقةٌ ثريةٌ ومستفيدةٌ تملأ فراغ المطاعم والمتاجر الكبرى والمنتجعات والفنادق وغيرها. الأهم أن المشكلة لا تقف عند هذا الحدّ، فأمثال هؤلاء، في بلد كلبنان، يقودونه في مرحلة لاحقة، كما قاده أمراء حرب وانتهازيون، بعد انتهاء حرب 1975 ـ 1990. بالتالي، يحقق الشعور بالفزع حين ترى أن شاباً، لا يتجاوز عمره 25 عاماً، يقود سيارةً سريعةً، مع كل ما تتطلّبه من وقود، على طريق عام في لبنان، من دون أن يبالي بالمارّة ولا السيارات الأخرى ولا بأمنهم، حين يتجاوزهم بطريقةٍ مخالفة للقوانين، ولا يكترث حتى بالقوى الأمنية التي ستصمت على كل خروقه، فقط لأنه قادر على تقديم الرشى، أو لاحتمائه بحزبٍ ما. هذا الشخص مشروع نائب ووزير في المستقبل، ففي ظلّ امتلاكه الأموال، وبموازاة تنامي مؤشرات الفقر، سيجد نفسه قادراً على تمويل عملية انتخابه في مطلق منطقة لبنانية، وتسهيل الحياة أكثر على نفسه، حين يجد أشخاصاً مماثلين له يتحولون إلى نواب بدورهم. هؤلاء سينجحون في امتلاك الأكثرية التي تتيح لهم وضع تشريعاتٍ مناسبةٍ تلائم خرقهم القوانين.
هل هذه النهاية، أقلّه في شقّها اللبناني، ما لم يتدخل أحد من الخارج، أو ما لم تحصل معجزة ما، تضع حدّاً لكل هذا التدهور؟ ليس بالضرورة، لكن تكرار مشهد ما بعد حرب لبنان، ليست أنباءً جيدة. بمعزل عن محاكمة التاريخ لنا، كيف سنجد أنفسنا حين نقف أمام المرأة يومياً، نفكر بيومنا الآتي، بينما أحدهم قد بدأ يومه بخرق القانون، من دون الخشية من العواقب؟ يمكن الاستعانة بالتفاؤل في محطّات عدة، وهو واجبٌ نفسي، لكن التشاؤم هنا أكثر واقعية.