الرجال ووهم الانتصار
في بلاد متخلفة جائرة، تعادي الأنوثة لناحية المبدأ، ويجري فيها قتل النساء بشكل روتيني، بذريعة الشرف، وسط مباركة المجموع الضمنية، باعتباره عملاً بطولياً، يعبر عن كرامة وشهامة، ويجري فيها تزويج القاصرات رغماً عن طفولتهن، ينتزعن من مقاعد الدراسة، ويغلق الأمل بالمستقبل بابه في وجوههن، ليقتصر معنى وجودههن على خدمة الرجل، وتلبية احتياجاته، وإنجاب الذرية الصالحة والتواري داخل أسوار بيوتهن سجيناتٍ غير معلنات، تلتهمهن مشاعر القهر والعجز والإحباط، في تبعية مطلقة لرجالٍ يعانون من وهم التفوق البيولوجي، ويُصار فيها إلى حرمان النساء من ميراثهن الشرعي بوسائل احتيالية للحيلولة دون حصول الغريب على نصيبٍ من الميراث، والغريب في هذه الحالة هم أبناء المرأة وزوجها! يمارسون، في سبيل ذلك، كلّ وسائل الضغط والابتزاز العاطفي، لدفعها إلى التنازل لمصلحة ذكور العائلة، فلا تجد مناصاً سوى الرضوخ، حرصاً على تماسك الأسرة الكبيرة المعرّض للتداعي، إذا ما تمسّكت المرأة بحقها الذي أقره الله! في بلادٍ تُهان فيها المرأة وتعنّف، وتتعرّض للتنمّر والتحرّش، وتُمارس عليها وصاية تعسّفية تحدّ من طموحها في الإنجاز الأكاديمي والتحقق المهني والحضور الاجتماعي. في بلادٍ مؤسفة كهذه، في موروثها كلّ أشكال الإساءة إلى صورة المرأة التي تصل إلى حد الشيطنة، تبدو طبيعية جداً، بل ومتوقعة، حالة الشماتة والانتشاء بفوز الممثل، جوني ديب، ضد طليقته الممثلة آمبر هيرد في القضية التي ترقّب العالم مستجدّاتها أسابيع، واعتبر رجالٌ كثيرون هذه النتيجة نصراً شخصياً لهم، ليؤكّدوا على قناعاتهم الموروثة عن كيد النساء في العموم وخبثهن وكذبهن.
حسناً! توصلت هيئة المحلفين، وهي أغلبية ذكورية بالمناسبة، إلى أنّ آمبر متلاعبة وكاذبة ومتجنّية وخائنة ومريضة نفسياً. لكن ليس من العدل أن ينصرف حكمٌ كهذا على النساء بالمطلق، وأن تصبح هذه القضية مرجعيةً لإطلاق أحكام عمومية هوجاء، وإلّا كان مشروعاً لنا اعتبار جميع الرجال قتلة متسلسلين، ومغتصبي أطفال وسارقين ومحتالين. احتفل الرجال في بلادنا بفوز القرصان الشهير، وإن لاموه بشدة لاعترافه بالتعرّض للضرب والتعنيف من طليقته، ما هزّ صورته رمزاً ذكورياً. قال أحدهم: "لو إنني مكانه كنت سأخسر القضية قبل الاعتراف بهذا الأمر المشين".
وانتصرت جماهير النساء لجوني، على الأغلب، بسبب سحره وجماله وجاذبيته وبراعة تمثيله. لم يوجّه إليه أحد اللوم بسبب إقدامه على الزواج من فتاه تصغره بـ23 عاماً، وهي عملياً من جيل أبنائه، غافلين عن أنّ هذا الفارق الفادح في العمر يشكّل خللاً جذرياً في العلاقة، ويؤدّي إلى عدم التكافؤ على كلّ الأصعدة. ولم يلتفت أحد، بل تسامح المجموع مع حقيقة إدمانه على تعاطي المخدّرات والخمور، ما يؤثّر، بالضرورة، على سلوكه، وتغاضى عن غرابة أطواره واضطراب شخصيته، وصبّ العالم جام تشفّيه على آمبر، وحملها المسؤولية كاملة، ولم يتوقف حتى عند قرار المحكمة بتحميل ديب جزءاً من المسؤولية.
لا أحد ينكر بشاعة الأفعال التي ارتكبتها آمبر وفق ما توصلت إليه المحكمة. لكنّ ذلك لا يبرّر، بأيّ شكل، التكالب العالمي الذي جرى ضدها، من دون إبداء أي ملمح رأفة أو محاولة تفهم يحظى به أحياناً أعتى السفاحين. وهذا أمرٌ مألوف، حين التعاطي مع المرأة لأنّ جريمتها دائمة مضاعفة وغير قابلة للغفران تحت أي ظرف، فحين يُقدم رجلٌ على قتل زوجته، ينشر الهمس عن سلوك الضحية "أبصر شو شاف عليها". وعندما يخونها، فلا يتعدّى تصنيف الأمر بالنزوة التي تتسع لها مساحة الغفران، بل ويجري تحميل المرأة مسؤولية التقصير بحقّ زوجها، ما يدفعه إلى البحث عن بدائل، لأنّه "يا حرام" في النهاية، ضعيف أمام رغباته، وعليها تفهم ذلك بعقل كبير متفتح. أما إذا بدر منها سلوك مماثل، فمصيرها الذبح غير مأسوف عليها. وإذا صودف أن أبدى الرجل تفهماً وتسامحاً، فهو ليس أكثر من "ديوث" بقرنيْن كبيريْن سوف يلفظه المجموع، ويعتبره عاراً على الرجولة والشرف.