الذكورية خطابٌ معادٍ للنسوية
أما الآن، وقد انتهت الاحتفالات باليوم العالمي للمرأة الواقع في 8 مارس/ آذار من كلّ عام، وتوقّفت المعايدات والمظاهرات المطالبة بضرورة نيل المرأة حقوقها وتساوي فرصها وحظوظها مع تلك المتوفرة تلقائيا للرجل، فلا بد من طرح أكثر الأسئلة بداهة: ما هو الباعث فعلاً على كراهية النساء حدّ إنزال أقصى العقوبات بهن، بل حدّ القتل على يد أقرب الناس: الوالد، الأخ، الزوج، وحتى الابن. لا نحتاج هنا إلى تقديم دلائل أو براهين، كما لا لزوم أيضاً إلى الاستشهاد بإحصائيات تُجمع على انتفاء التمييز في هذا الشأن بين مجتمعٍ فقيرٍ أو غنيٍّ، متعلّمٍ أو أمّيّ، مدينيٍّ أو ريفيٍّ، شرقيٍّ أو غربيٍّ... سبحان الله! ما تراه يكون ذاك الشيء العجيب الذي تمتلكه المرأة، ترتكبه، أو تستفّزه لدى الرجال، لكي يتحوّلوا وحوشاً قادرين على الاغتصاب والضرب والتعنيف، وصولاً إلى ارتكاب جريمة قتل؟ هؤلاء الكارهون للنساء بهذا القدر، ولدتهُم نساءٌ وربّتهم وأحبّتهم أمهاتٌ وأخواتُ وبناتٌ وحبيبات... كنا قد اعتقدنا أن القضية سُويّت في المجتمعات التي للنسوية فيها تاريخ نضالي حقّق عدة إنجازات، لكن في الحقيقة لا، إذ تُظهر الأدلة المتاحة أن المنجز في إنهاء العنف ضد المرأة غير كافٍ على الإطلاق، حتى في أكثر الدول تقدّماً وتشريعاً لحماية المرأة. ولسنا ندري حتى اليوم إن كان قتل النساء يجري بدافع جنساني متّصل بأدوار نمطيّة للجنسين، أو عائدا للتمييز ضد النساء والفتيات، أو لعلاقات قوةٍ غير متكافئة بين الجنسين، أو لأعراف اجتماعية سيئة وظالمة، إلخ.
الطريف في الموضوع، إذا صحّ استخدام صفة طريف، أن الطرف الآخر بات يشكو من قلة حيلته حيال عُسف النساء وممارسة الضغط عليه ومطالبته بأداءٍ ينزع عنه صفة الرجولة، وقد يصل إلى حدّ إشعاره بالإخصاء! نعم، ثمّة إيديولوجيا مستجدّة تدعى "الذكورية" (masculinism) أدّت إلى إنشاء حركاتٍ وجمعياتٍ تدعو إلى إنصاف الرجال وضرورة استعادة الذكور موقعهم الأوّل، أي موقع "الذكر ألفا" أو الذكر القوي الذي يقود قطيعَه ويخضع له الباقون، والذي يمثّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب النسخة الأبهى منه.
ولدت الذكورية في سبعينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة وكندا من مبادراتٍ قام بها رجالٌ أرادوا، في البدء، أن يكونوا متحالفين مع القضية النسوية، ويفكّروا في كيفية مشاركتهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في عدم المساواة. ثم تم إنشاء شبكات ناشطة توزّعت في اتجاهين للتفكير في الذكورة، فرأى قسمٌ إليها بوصفها فئة اجتماعية، وقسم آخر فئة بيولوجية. أراد هؤلاء جميعا أن يصبحوا رجالا أفضل من أجل تحقيق المساواة، إلا أن الأمور انحرفت بعد أن شعروا أن لا مكان لهم فعلا في الشبكات النسوية، فكان أن ظهر خطاب أزمة الذكورة الذي يمكن تلخيصُه كالأتي: إذا كانت لدينا مشكلات كرجال، فلأن النساء يسيطِرن علينا.
هذا وترى الباحثة وعالمة الاجتماع الكندية مليسا بليس أن الذكوريين مؤمنون فعلا بأنهم يعانون من عدم المساواة، ولكي نفهمهم "علينا إفراغ مفهوم المساواة من الأساس الاجتماعي والاعتقاد بأن المساواة قد تحقّقت، من أجل التفكير في الذكورية. بالنسبة للأشخاص الذين يرفضون رؤية استمرار عدم المساواة التي تضع المرأة في وضعٍ أدنى من وجهة نظر هرمية، يصبح الخطاب النسوي غير مسموع، ويتحوّل حتى خطابا يضطهد الرجال".
ينتشر كره الذكوريين المرأة بشكل واسع عبر الإنترنت، وهو ما أدّى إلى تطوّر شبكات فرعية كثيرة انتشرت من حول العالم، فطوّرت بدورها خطاب الذكورية، حيث بتنا نسمع مثلا عن فئة العازبين غير الطوعيين، أي أولئك المحرومين من علاقاتٍ عاطفيةٍ وجنسيةٍ بسبب عدم قدرتهم على إغواء المرأة التي باتت تُشعرهم بالعجز. مقابل هؤلاء، سوف نسمع عن جمعيات مخصّصة للذكور فقط يديرها "مدرّب" نجم (coach)، يقدّم نصائح للرجال عن كيفية استمالة قلوب النساء وكسب إعجابهن، في حين يستشرس في مهاجمة النسويات بشكلٍ مباشر، لأنهن... أصل كل البلاء!