الدين سلاحاً شعبوياً

11 أكتوبر 2021

(فانسون حافظ عبادي)

+ الخط -

توفي يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول الحالي رسام الكاريكاتير السويدي، لارش أندل روجر فيلكس، في حادث سير مروري. وكان قد أثار جدلاً كبيراً في بلاده عندما رسم صوراً مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اضطرّ وقتها رئيس الوزراء السويدي، فريدريك راينفيلديت، للقاء سفراء 22 دولة أغلبية سكانها من المسلمين، لتهدئة الأجواء العاصفة والتظاهرات المندّدة بتلك الرسوم.
يُذكر أنّ الرسام لارش، الحاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الفنية من جامعة لوند، قد أمضى ردحاً من حياته، منذ 15 سبتمبر/ أيلول 2007 وحتى وفاته، في حراسة الشرطة السويدية، فقد كان يتنقّل بسيارة للشرطة وبحراستها منذ ذلك التاريخ، وقد توفي معه يوم الحادث ضابطان من الشرطة. جاءت هذه الإجراءات نتيجة رسالة التهديد الصوتية التي أطلقها أبو عمر البغدادي، أمير ما كان يُطلق عليها آنذاك تسمية "دولة العراق الإسلامية"، وعرض فيها مكافأة مالية مقدارها مائة ألف دولار لمن يقتله، وتصبح 150 ألفاً إن كان القتل بطريقة الذبح كالنعاج!
يستوقف موضوع الرسوم المسيئة من جهة، وموضوع ردود الأفعال الغاضبة عليها من جهة ثانية، المرء بجديّة، ويثير عدداً معقولاً من الأسئلة التي لا إجابات جازمة حولها. ولا يخلو الأمر بطبيعة الحال من تفسيراتٍ مباشرة، كانت تنظر إلى إصرار فنانين أو صحافيين على رسم مثل هذه الصور أو نشرها، بغرض الوصول إلى الشهرة أو تحقيق نوعٍ من الحضور على الساحة. ويبدو أنّ هذا السبب، على بساطته، معقول وراجح، فمن كان سيسمع باسم لارش خارج حدود مملكة السويد، لو لم يرسم هذه الصور، أو على الأكثر في محيطٍ أوسع قليلاً في الدائرة الاسكندنافية، وحتى لو كان يحمل عشر شهادات دكتوراه في الفن؟

لا يدرك الأوروبيون الدور المحوري الهائل الذي لعبته شخصية الرسول في محيطها العربي

هناك بكل تأكيد عوامل ذاتية عند هؤلاء، متأتيةٌ من طبيعة فهمهم للحقوق والحريات، وممارستهم لها يومياً واقعاً معيشاً وأسلوب حياة من جهة. وهناك ظروف البلاد التي يعيشون فيها من جهة ثانية، تاريخها وموقفها من الأديان عموماً، وما مرّت به من صراع بين الكنيسة والسلطات السياسية، وما تحمله ثقافتها، بشكل أو بآخر، من إرث طويل من آثار الصراع مع الدول الإسلامية المتعاقبة على مناطق النفوذ، وكذلك الحروب التي اتّخذت لبوس صراع ديني مسيحي إسلامي، خلال فترة العصور الوسطى وحتى سقوط الإمبراطورية العثمانية مع نهايات الحرب العالمية الأولى.
لا يستوعب الأوروبيون عموماً مسألة الحبّ الشديد التي يكنّها المسلمون لنبيّهم محمد (ص)، فهم لا يدركون الدور المحوري الهائل الذي لعبته شخصية الرسول في محيطها العربي. كان العرب قبل محمّدٍ (ص) معزولين عن العالم في صحراء قاحلة، يعانون القلّة والعَوزَ وضنك المعيشة، كما كانوا يعانون من ثقل تقاليد الغزوات والمعارك التي أجبرتهم عليها ظروفهم للبقاء على قيد الحياة. إضافة إلى ذلك، كان اليهود في جوارهم ينظرون إليهم نظرة استعلاء واستخفاف، فهم، أي اليهود، شعب الله المختار الذين أرسل عليهم عشرات الرسل، بمن فيهم يسوع المسيح عيسى ابن مريم. بينما العرب جهلةٌ لا دين لهم ولا رسول، أو كما يفسّر المفكر الراحل، هشام جعيط، وضعهم بأنهم أميون، أي أنهم من غير أصحاب الديانات السماوية، ومن غير المحظوظين برسل الله إليهم، فهذه الأخيرة محصورة باليهود دون غيرهم.

قطع الأوروبيون شوطاً بعيداً في تحليل طبيعة الدين وعلاقته بالمجتمع

كذلك كانت تحوطهم إمبراطوريات هائلة، لها ديانات متجذّرة، فمن الشرق الحبشة ومن الغرب فارس ومن الشمال بيزنطه، وهم قبائل حفاة عُراة لا يجمعهم مُلكٌ ولا قائد. وكلّ هذا تغيّر في لحظة تاريخية فارقة مع قدوم النبيّ محمد (ص)، فأصبح هؤلاء من سادة العالم في زمانهم ولمئات السنين المتعاقبة. وقد ارتبط هذا كلّه بالإسلام الذي أتى به إليهم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي. كانت مركزية الرسول في الإسلام، بشخصه ونسبه وفعله وقوله، محلّ تعظيمٍ لدي العرب، وامتدّ هذا الاحترام إلى كلّ الشعوب الإسلامية من باقي القوميات. لذلك لم يكن من السهل على أتباعه تقبّل هذه الإهانات المقصودة لرمزهم وقدوتهم عبر آلاف السنين.
على العكس من ذلك، قطع الأوروبيون شوطاً بعيداً في تحليل طبيعة الدين وعلاقته بالمجتمع، وليس المقصود هنا اتجاههم نحو الإلحاد، بل النظر إلى الدين مجموعة من الطقوس والمعتقدات الخاضعة لقوانين الإيمان، لا لقوانين العلم والتجريب، وهي لم تعد تحكم العالم، بعد أن تمّ نزع السحر عنه، وإدخاله أكثر وأكثر تحت حكم قوانينه الذاتية. لذلك كان لديهم عبر خمسمائة عام من التاريخ الذي بدأ مع الإصلاح البروتستانتي، كي ينفصلوا أكثر عن التقديس الذي كانت تفرضه الكنيسة، ليس على المسيح فقط، بل على رجال الدين، من أصغرهم حتى رأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا في روما.

أليس غريباً ألا نشهد مسيرة واحدة في أي بلد إسلامي تعاطفاً مع إخوانهم المسلمين في ميانمار مثلاً؟

لكن ما يلفت النظر أكثر من غيره عند الشعوب الإسلامية أنها مستعدّة للخروج في الشوارع بالملايين من أجل الاحتجاج على صور تمسّ رسولهم الكريم، وأنّ أفراداً كثيرين قاموا بعمليات اعتُبرت إرهابية، حسب قوانين البلدان التي وقعت بها من أجل ذلك، بينما لم تهتزّ لهم شعرة لمصير مليون مسلم من الإيغور يقبعون في معسكرات الاعتقال الصينية، ولا بمصير مئات آلاف السوريين الذين قتلهم جنود الأسد. ولم يشعروا بأدنى غيرة على مئات، بل آلاف المساجد التي سوّتها براميله وصواريخه بالأرض. أليس غريباً ألا نشهد مسيرة واحدة في أي بلد إسلامي تعاطفاً مع إخوانهم المسلمين في ميانمار مثلاً؟
الحقيقة أنّ الدين سلاحٌ هائل في يد السلطة السياسية في عصرنا الراهن، تستخدمه الحكومات الديكتاتورية لتثبيت عروشها، وما أكثرها في عالمنا العربي والإسلامي، كما أنه سلاحٌ لدى المجموعات المتطرّفة والإرهابية والطائفية تتذرع به في ارتكاب القتل. وفي المقابل أيضاً، تستثمره الحكومات الديمقراطية خارج حدود بلادها، فما كانت تحرّمه السلطات المتعاقبة، بدءًا من الثورة عام 1789 في فرنسا ذات اللائكية المتشدّدة من مظاهر دينية، دأبت، في الوقت نفسه، تشجّعه وتستثمره في مستعمراتها، فكانت حملات التبشير قائمةً على قدم وساق في أفريقيا وآسيا. هكذا يذهب الناس في الدفاع عن معتقداتهم إلى ما يناقض جوهرها، وهكذا يُستثمر إيمانهم وتُجيّر حماستهم وغضبهم نحو صدور أعداء مُفترضين، لإبعادها عن أعداء الحرية الحقيقيين. وفي المقابل، يجني كثيرون، من أمثال سلمان رشدي ولارش فيلكس، الملايين لاستثمارهم في ردود أفعال بسطاء الناس، ويكون الضحية هو الدين ذاته وقبله الإنسان.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود