الدولة و"الإخوان" في مصر... عودٌ على بدء
أثار قرار محكمة الجنايات في مصر استبعاد مئات من قوائم الإرهاب جدلاً واسعاً بشأن إمكانيّة حدوث مصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين، الموصوفة بـ"الإرهابيّة" في الخطاب الإعلامي الرسمي المصري. والقرار هو الأوّل من نوعه منذ سنوات، وشمل قيادات تنظيمية للجماعة في المنافي، وآخرين معروفين بمواقفهم الحادّة، وانتقاداتهم الشديدة السلطة في مصر، ونعتها بأشدّ الاتهامات في الفضاء الإعلامي الإخواني، وهو ما يتجاوز التبعات القانونيّة للقرار، ما يعني أنه يحمل رسالةً ضمنيّةً، سيّما أنه جاء مصحوباً بعباراتٍ جديدةٍ لم يعرفها الإعلام الرسمي خلال السنوات الماضية، مثل "فتح صفحة جديدة"، و"الحرص على أبناء الوطن" من أجل الانخراط في المجتمع مواطنين صالحين.
وقد أثار القرار ردّات فعل متباينة، فأبدى شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، ترحيبه العميق بالخطوة، مؤكِّداً أنها جيّدةً على الجميع استثمارها والبناء عليها لما فيه مصلحة الوطن. بينما استنكرت شخصيّاتٌ برلمانيّة وإعلاميّة محسوبة على السلطة حدوث مصالحةٍ مع من مارسوا الإرهاب، ما يعكس قناعات سلبيّة مُترسّخةً عن الجماعة داخل أروقة السلطة.
استقبلت عناصرُ المجموعات الإخوانية المُتشرذِمة في المنافي (على اختلافها) الخبرَ بحالةٍ من التوجّس والتشكيك في دوافعه وتبعاته، وقد ظهر هذا جليّاً في تدوينات إخوانيّة عديدة في الفضاء الافتراضي، بيْد أن موقع إخوان سايت، التابع لـ"جبهة لندن"، لم يُعقّب على الخبر، بينما أبدى موقع إخوان أون لاين، التابع لـ"جبهة إسطنبول" موقفاً رافضاً الخطوة، واعتبرها حدثاً هزيلاً لا يستحقّ النظر وفقاً للموقع.
معطيات المشهد المصري خلال السنوات الماضية تقول إن مركز الثقل في الأزمة السياسيّة هو الإشكاليّة الممتدّة بين الدولة المصريّة و"الإخوان"
يحسُن هنا أن يُشار إلى مبادرة إخوانيّة جاءت في نهاية الصيف الماضي، عندما ظهر إعلاميٌّ مُقرَّبٌ من جناح صلاح عبد الحقّ (أو "جبهة لندن")، وقال إن رئيس القسم السياسي قي الجماعة، حلمي الجزّار، طلب منه أن ينقل رسالةً منه يطالب فيها السلطات في مصر بالعفو عن الجماعة، والإفراج عن المعتقلين من عناصرها بالسجون، في مقابل تخلّي الجماعة عن العمل السياسي مدّةً تراوح ما بين 10 و15 عاماً، بيدَ أنّ الجزّار نفسه ظهر بعدها بأيّام عبر برنامج "بلا قيود" في شاشة "بي بي سي" عربي، ونفى وجود مبادرة، مُشدّداً على أن الجماعة تبحث عن تسوية للوضع في مصر عامةً، تشمل مكوّنات المجتمع المصري كلّها، كما نفى تماماً نقطة تخلّي الجماعة عن العمل السياسي الذي يكفله الدستور، بحسب تعبيره. لكنّه أشار إلى أن المقصود هو التخلّي عن "الصراع على السلطة" من دون ترك العمل السياسي، الذي اعتبره من ثوابت الجماعة. اللافت ما قاله الجزّار عن انقسام الجماعة بين جناحَين متصارعَين، عندما وصفه بأنه مُجرَّد خلاف "إداري" حول تفسير اللائحة يُمكن حلّه من طريق استشارة بعض المحامين لتفسير اللائحة، بحسب زعمه.
الجدير بالتوقّف، أنه عقب ذيوع خبر المبادرة الإخوانيّة نهاية الصيف الماضي، من جناح صلاح عبد الحقّ، القائم بأعمال المُرشد (قائد جبهة لندن)، كان ردّ جناح محمود حسين القائم بأعمال المُرشد أيضاً (قائد جبهة إسطنبول) إنّ هذا الكلام لا يُمثّل الجماعة، ومشروعها يكمن في "إسقاط الانقلاب"، والحفاظ على التنظيم، لأنه ضمانة استمرار الجماعة، وأن المشاركة السياسيّة جزء أصيل من مشروع الجماعة على حدّ قولهم.
تقول معطيات المشهد المصري خلال السنوات الماضية إن مركز الثقل في الأزمة السياسيّة هو الإشكاليّة الكبيرة الممتدّة بين الدولة المصريّة وتنظيم الإخوان المسلمين، كما أن حصاد العقود الماضية يُخبرنا أن المشاهد المتتالية لتاريخ الصدامات بين الدولة المصريّة وتنظيمات الإسلام الحركي وجماعاته تدور في مسلسل ذي سيناريو محفوظ، وبترتيب الحلقات والمَشاهِد واللقطات نفسها من دون تغيير. فللدولة المصريّة نهج ثابت لا يتغيّر عند الصدام مع تلك الجماعات، وهو استخدام أقصى وأقسى درجات القمع، عبر كل أجهزة الدولة، وبعد تكسيح خصمها المُتمثِّل بهذه الجماعة أو تلك، بتعجيز قدراتها التنظيميّة، وتجفيف مصادرها التمويليّة، يأتي الحديث عن الحلّ أو الحلحلة، وقد حدث هذا مراراً منذ صدام الدولة مع الإخوان المسلمين في الخمسينيّات والستينيّات، ثمّ في صدام الدولة مع تنظيمي الجماعة الإسلاميّة والجهاد في الثمانينيّات والتسعينيّات، ثمّ في صدام الدولة مع الإخوان المسلمين في 2013.
بالرغم من أن الدولة ألحقت بالتنظيم الإخواني أكبر هزيمة في تاريخه، فإنّ الجماعة لم تسعَ طوال السنوات الماضية إلى تقديم مبادرة جادّة من أجل إيجاد مخرج للأزمة، فالسياق المنطقي يقول إن الطرف الخاسر هو الذي يبادر بتقديم تصوّر للخروج من الأزمة وليس العكس، من أجل وقف الخسائر الذاتيّة، ومن أجل مصلحة الوطن. المشكلة أن تنظيم الإخوان المسلمين دخل في متتالية انقساميّة، تمخّضت جبهتَين مُتصارعتَين، عبر "جبهة لندن" وغريمتها "جبهة إسطنبول"، ثمّ ظهرت ثالثة حملت اسم "جبهة التغيير" أو جناح الكماليين، نسبة إلى القيادي الإخواني الراحل محمد كمال، صاحب الدور الكبير في تأسيس ما سُمي بـ"اللجان النوعيّة"، التي جنحت إلى ممارسة العُنف المُسلَّح، والعلاقة بين تلك الجبهات تدور في إطار صراعي، يتجاوز نقطة الصراع بين الشيوخ والشباب، إلى انقسام رأسيّ بين الشيوخ أنفسهم، ويجنح إلى مزايدة كلّ جبهة على الأخرى، ومحاولة إظهارها بمظهر الطرف المُفرِّط في ثوابت الجماعة.
استمرأت جماعة الإخوان الصدام المتكرر مع الدولة والعيش في عقلية "المحنة" المستديمة، ما أحالها "طائفة مغلقة"
اللافت هنا في هذا الانقسام، أو صراع الجهتَين على الهيمنة على التنظيم الذي يخلو من أي أبعادٍ فكريّةٍ، هو العجز الكامل لقيادات الجماعة (بجبهتَيها المُتصارعتَين معاً) عن إيجاد مخرج للأزمة الطويلة، التي تعيشها الجماعة منذ سنوات، إذ تحوّل الحفاظ على التنظيم الديناصوري المُتهالِك هدفاً في حدّ ذاته، بغضّ النظر عن معاناة أتباع الجماعة في السجون وأُسرهم، من دون أيّ مردود أو أُفق منظور. وهو ما يحمل دلالات بالغة لمدى إفلاس تلك القيادات، كما يعكس فشلاً ذريعاً على عدّة مستويات في إيجاد مخرجٍ لأزمةٍ مُتفاقمةٍ، كانت تلك القيادات سبباً أساسياً في اشتعالها ووصولها إلى النقطة التي وصلت إليها، كما يبدو واضحاً أن الجماعة استمرأت الصدام مع الدولة، الذي تكرّر خلال العقود السبعة الماضية، في العهدين الملكي والجمهوري على السواء، والعيش في عقلية "المحنة" المستديمة من دون أيّ محاولة للخروج منها، ممّا أحال الجماعة في المُحصّلة النهائية إلى "طائفة مغلقة"، ليس على المستوى الفكري والتنظيمي فحسب، ولكن على المستوى العقلي والنفسي أيضاً.