الدعسة العسكرية الإيرانية الناقصة
عندما اجتازت طهران حاجز الحذر المديد، بعد طول تهيّب، وتغلّبت على هواجسها وحساباتها، وخشيتها من مغبّة مقابلة عدوّها وجهاً لوجه، وقطعت الشك باليقين، إثر تصفية هيئة أركان حرسها الثوري في سورية ولبنان، أوائل إبريل/ نيسان الجاري، بدت الجمهورية الإسلامية في وضعية الـ"لا خيار"، أمام بدٍّ ليس منه بدّ، مُكرهة على شرب حليب السباع، والانتقال من سياسة الفم الكبير والتهويل إلى حوزة الفعل المجيد، فكان سَبْتُ المُسيّرات والصواريخ يوماً من أيام فارس، حدثاً مهماً في حد ذاته، ونقطة فاصلة بين زمنين من تاريخ الصراع الطويل، ولولا بعض التحفّظ لقلنا إنّه الفعل الذي رجّح الوزن الإقليمي لإيران، ورفعها على منصّة التتويج، وألقى جميع لاعبي الشرق الأوسط الوازنين، ومنهم عرب كبار وأغنياء، إلى قارعة الطريق، وربما خارج التاريخ.
بعد سَبْتِ المُسيّرات، التي احتفل بها عرب وعجم وأكراد وأتراك، أيّما احتفال، بدا كلّ شيء إيراني على خير ما يرام، إذ اكتسب الخطاب الثوري صدقيّة كان يفتقر إليها بشدّة، حتى لدى مؤيّديه الذين كانوا يَشعُرون بالحرج، يتلعثمون كثيراً، وتنقصهم القدرة على التبرير والدفاع عن قاعدة محور الممانعة وهي تُضرَبُ في بلاد الشام والعراق، وأحياناً في قلب طهران، من دون ردّ أو انفعال، كما بدت إيران، بعد تلك الليلة الليلاء، بلداً يُؤخذ على محمل الجدّ، ويُحسب له الحساب، وصار لوعيدها بالردّ على الردّ رصيداً من الثقة عند الخصوم والأعداء والأصدقاء، على حدّ سواء، الأمر الذي غيّر المزاج العام، وأشاع قدراً طيباً من التفاؤل، وعدّل التوازن قليلاً، بعد طول اختلال.
غير أنّه لمّا وقعت الواقعة في محيط أصفهان، وكانت صغيرة، راح الإعلام الإيراني يهوّن من وقعها وقد سبقتها تهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور إن أخطأ العدوّ في الحساب، وليس في هذا الكلام خطل، ولا ينطوي على هرطقات، إلا أنّ الكلام أتى بنبرة مختلفة عن سابقتها في الأمس القريب، جاء من خارج النص الإيراني المُستَحْدَث بعد ضربة الصواريخ والمُسيّرات، فأخذ قادة الحرس الثوري يُخفّضون شعلة اللهب، ويتحوّطون بعناية إزاء العواقب المُحتَمَلَة، وعادوا برشاقة إلى السياق القديم، إلى المبالغات إياها بالردّ على ردّها، وعملوا في المقابل على تجهيل ما حدث في أصفهان، والتعتيم عليه. وفوق ذلك، راحوا يُبرّئون دولة الاحتلال من فعلتها، نُزولاً عن شجرة الردّ، الذي كانت الجمهورية الإسلامية قد وعدت بإنزاله بالعدوّ مضاعفاً عشر مرات.
لسنا من القائلين بنظرية المؤامرة، ولا من الزاعمين أنّ ما جرى من ردّ، ثمّ من ردّ على الردّ، كان عملاً مسرحياً سيئ الإخراج والأداء، هندسته واشنطن ووزّعت فيه الأدوار، غير أنّ مقاربة هذه الأحجية، من زاوية نظر مغايرة، تُفيد بأن للواقع الإيراني، المُثقَلِ بالمصاعب والعقوبات، إكراهاته، ولعلاقات القوة منطقها الذي لا يُجامل، الأمر الذي يُفسّر، من دون عَسَف، التحوّل السريع في موقف طهران، ويَشي بأنّ إعادة تقييم مستعجلة أملتها حقائق صلبة قد جرت خلف الأبواب، وأنّ الخشية من ضرب المشروع النووي، وتحقيق ما تطلّع إليه نتنياهو، ربع قرن، بتوريط أميركا بعملية لا تقدر دولة الاحتلال على القيام بها.
كانت ضربة المُسيّرات واقعة كبيرة لا سابق لها، واستثنائية بالمعايير كلّها، إلا أنّها كانت في الوقت ذاته دعسة ناقصة، لها ما لها من جرأة وإقدام، وعليها ما عليها من مراوحة وإحجام، غير أنّ التعاطي الإيراني مع الردّ الصهيوني في أصفهان، جاء رديئاً مرتبكاً مفكّكاً، على عكس سابقه المُتّسم بالإقدام، ولعلّ أسوأ ما في الأمر كان تفضيل الاعتراف بوجود اختراق داخلي معيب على اتهام الفاعل المجهول المعلوم، والحرف الأول من اسمه "إسرائيل"، بارتكاب العمل "الأمني"، والتلهي بلعب الأطفال، في مفارقة دالّة على استشراء الميل نحو الإنكار، واستحكام عادة التغميس خارج الصحن، ناهيك عن الردّة إلى الجعجعة بلا طحن.
بقدر ما كان الردّ الصاروخي الإيراني اليتيم باهراً متحديّاً بالفعل، مثيراً للإعجاب ورافعاً للمعنويات، كان تعاطي طهران مع الردّ على الردّ كئيباً مُحبِطَاً وباعثاً على الاستهجان، فبدت الجمهورية الإسلامية في غمرة الردّ والردّ على الردّ تعرض المساومة، وتتهرّب من الوفاء بالوعد، وكأنّها دولة تلعب لعبة حرب تقع أولا تقع، تجيء بغتة وتنصرف من دون استئذان، تتلبّد غيومُها فجأة ثمّ تنقشع دفعة واحدة، وهو ما أعاد إلى الخاطر المجروح كلمات أغنية فيروزية عتيقة، كتبها ولحّنها الأخوان رحباني، مطلعها: "تعا ولا تجي، واكذوب عليّ، الكذبة مش خطيّه، وعدني إنك رح تجي، وتعا.. ولا تجي".