الدروس الخاطئة لنادي الاستبداد من الثورات العربية
أخيراً، تمكّن النظام الرسمي العربي، منفرداً ومجتمعاً، أو هكذا يعتقد، من تجاوز أكبر المحن التي مرّ بها، وأعظم التحدّيات التي عاشها على امتداد تاريخه، منذ خروج العثمانيين الأتراك من المنطقة وولادة الدولة العربية في شكلها الراهن. أعني بذلك تحدّي الثورات العربية وما تمخّض عنها من تداعياتٍ محلّيةٍ وإقليميةٍ أوسع. وكان ذلك بعدما خاض النظام العربي معركةَ وجودٍ قاسيةٍ ترتقي إلى مستوى ثنائية الحياة والموت.
إثر اهتزاز الأوضاع في تونس، ومنها إلى مصر، مادت الأرض تحت أقدام النظام العربي مشرقاً ومغرباً، وانبثّ الرعب في فرائسه وأطرافه، خشية سريان العدوى إلى مواقع أخرى وفق نظرية الدومينو. وعليه، بدأ في مواجهة ما عدّه خطراً على وجوده باستخدام مزيج سحريّ مركّبٍ من الجزرة أولاً، ثم العصا ثانيةً. انطلق "تكتيك المقاومة" الرسمية بإغداق عطايا الريع النفطي والترفيع في الأجور والحوافز، بشكلٍ غير مسبوق، لتعطيل مفعول الامتداد الجغرافي، ثمّ تحوّل من سياسة الاحتواء والتحفيز إلى التكشير عن الأنياب وإشهار العصا في وجه كلّ من تُحدّثه نفسه بالمطالبة بالإصلاح والتغيير. بموازاة ذلك، تمّ التحرك باتجاه نسج حلف إقليمي من نادي الإطلاقيات العربية الفَزِعَة من مواجهة موجة التغيير.
ثمّة درسان خاطئان استخلصهما نظام القمع العربي من تجربة الثورات المغدور بها، حدّدا، وما زالا يحدّدان، سلوكه السياسي. أولاً، القول إنّ سقوط زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، ومن تبعهما، كان بسبب خطئهما في التعامل مع الحراك السياسي والشعبي قبل الانتفاضة وخلالها، أي نتيجة إرخاء الحبل للحراك المجتمعي، والسماح للمعارَضَةِ بالتحرّك، ما أفسح المجال واسعاً أمام انفلات الأوضاع وفقدان السيطرة والتحكّم لاحقاً، فكان حالهما أشبه ما يكون بمَنْ جزَّ رقبته بنفسه، وفق هذه القراءة، بينما كان بإمكانهما الصمود في مواجهة عاصفة التغيير وكسرها بلا هوادة، لو امتلكا ما يكفي من الجرأة والتصميم. الجواب الطبيعي، المستنبط من وحي هذه التجارب المريرة للثورات العربية، هو ضرورة نقل الرعب إلى الطرف الآخر، وانتهاج سياسة استباقية بالغة الحزم والصرامة في التعامل مع المطالب المجتمعية والسياسية، والإجهاز المُبكّر على أيّ شكل من أشكال الاحتجاج قبل أن تكبر كرة الثلج، أي الاستعداد لمزيد من القمع وإيصاد كلّ الأبواب والنوافذ، وسد الفُرج أمام أيّ هامش ولو كان محدوداً للحراك المجتمعي والسياسي، إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة المقدّسة، ومن يرفع رأسه يجب أن يُكسَر بلا هوادة، بمجرّد أن يُفكّر في المعارَضَةِ التي تدخل في دائرة المسّ بالأمن العام، وتهديد السلم الوطني، لأنّ البديل المُحتَمَل، في حالة التراخي أو التهاون، سيكون عودة كابوس الثورات ومُنغّصاتها من جديد.
تشكّلت عقيدة سياسية وأمنية موحّدة في النظام الرسمي العربي، مفادها أنّ المهدد الأكبر للأمن والاستقرار الفردي والجماعي للأقطار العربية هو المطلب الديمقراطي
ولعل عبد الفتاح السيسي في مصر مثال مكثّف لهذه السياسة، وهو يشتغل فعلاً وفق هذه الوصفة السحرية المُستخلَصة من ثورة 25 يناير، والقائمة على مزيج مُركّب من القمع الاستباقي، ومنع أيّ هامش حركة، حتّى في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. هنا تظهر روح التضامن العربي بشكل لا نظير له في أيّ مجال، أي تضامن الاستبداديات العربية وتعاضدها معاً في مواجهة المفاجآت والتقلّبات، ولذلك ظلّ اجتماع وزراء الداخلية العرب، الأكثر انتظاماً ونجاعة، من بين ملفّات العمل العربي المُعطّلة كلّها تقريباً، بما يوحي بوجود عقد خفي ومقدّس بين أركان الاستبداد العربي على ألّا يُسلّم أيّ واحدٍ منهم عضواً في هذا "النادي" لمصيره في مواجهة أيّ قوْمة من القومات الشعبية العربية، وهذا الأمر يقتضي التحسّب لكلّ الاحتمالات، واتخاذ كلّ الحيطة، حتى لا يعود الكابوس الأسود لهروب بن علي، وإجبار مبارك على التنحّي، تحت هدير الشارع وصخب شعار "الشعب يريد"، وهذا يعني أن يضرب الجميع بيد واحدة ومتضامنة في مواجهة أي مخاطر سياسية محتملة.
وضمن هذا السياق، تشكّلت عقيدة سياسية وأمنية موحّدة في النظام الرسمي العربي، مفادها أنّ المهدد الأكبر للأمن والاستقرار الفردي والجماعي للأقطار العربية هو المطلب الديمقراطي، والوجه الآخر الشرير هو ما أصبح يعرف بالإسلام السياسي، وهما يمثّلان حالتيْن مترابطتيْن ومتداخلتيْن من زاوية نظر الأنظمة العربية. من هنا، يجب عدم التهاون في مواجهة مطلب التحوّل نحو الديمقراطية، وعدم التردّد في ضرب أيّ حركة احتجاجية، مهما كان شكلها ولونها، وقد عاد مثل هذا الجدل خلال خروج الشارع الأردني، أخيراً، ضدّ التطبيع مع إسرائيل، وتهديد بعض الدول العربية بالتدخّل خشية انفلات الوضع، وما ينجم عن ذلك من سريان عدوى الاحتجاج. وبموازاة ذلك، أُطلقت يد الجهاز الديني، الرسمي وشبه الرسمي، من الموظّفين لترويج نظرية الطاعة المطلقة لوليّ الأمر؛ ولو جلد ظهرك وسلب مالك وركب كتفك، فأنت مأجور على ذلك، دنيا وآخرة.
خلافاً للأوهام أنّ الثورات العربية كانت مؤامرة أميركية غربية، الحقيقة الصلبة أنّ النظام الدولي ارتبك أشدّ ارتباك أمام الحركة المفاجئة والسريعة للشارع العربي
كانت النتيجة الطبيعية لهذا الدرس الخاطئ، الذي خلص إليه النظام الرسمي العربي، تعطيل حركة المجتمعات، وتسييجها عسكرياً وأمنياً بفرض استقرار فوقيّ ومُصطنع. ولا تعني هذه السياسة شيئاً سوى كبت الصراعات وإسكات المطالب الاجتماعية والسياسية، بما يفتح المجال أمام الطفرات الانفجارية غير المحسوبة في أيّ وقت، على غرار ما جرى في الموجة الأولى لـ"الربيع العربي"، فكما يقول الشاعر الشابي: "حذارِ فتحت الرماد اللهيب/ ومن يبذر الشوك يَجنِ الجراحَ".
الدرس الثاني الذي استخلصه نادي الاستبداد العربي، والمبني على سردية مشوّهة، مفادها أنّ ما جرى سنة 2011 مؤامرة أميركية بامتياز، ناتجة عن "غدر" الرئيس الأميركي في حينه باراك أوباما بحلفائه العرب، إذ أسلمهم لحركة الشارع العربي الهائج، في تونس ومصر واليمن، بدل الدفاع عنهم بشراسة، والجواب الطبيعي على ذلك عدم التهاون أو تسجيل أيّ تنازل للخارج يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكلّ ما له صلة بملفّ الإسلام السياسي، ثمّ الذهاب رأساً باتجاه تل أبيب باعتبارها أقرب طريق إلى قلب واشنطن، والأقدر على ضبط إيقاع البيت الأبيض وتحديد خياراته. فبدل ملاعبة صانعي القرار هناك، ممّن لا توثق تقلّباتهم وحساباتهم، ينبغي التعامل مباشرة مع المُروّضين الأصليين في تل أبيب، الذين اتفقوا مع النظام الرسمي العربي، بأنّ الخطر الأكبر يتمثّل في الثورات وحركات الإسلام السياسي وإيران، وبعضهم يضيف تركيا رجب طيب أردوغان. وبموازاة ذلك، جرى توثيق العلاقات مع كلّ اللاعبين الدوليين من الروس والصينيين، وحتّى اللاعبين الإقليميين الإيرانيين والأتراك، أي توسيع العلاقات الدولية، ليس على خلفية انتزاع مساحاتٍ أوسع لصالح استقلالية القرار الوطني أو التحرّك باتجاه نظام دولي أكثر تعدّدية وتوازناً، بل على خلفية تثبيت دكتاتورية متعدّدة الأنصار والحلفاء، وربما تُقدّم الإمارات العربية مثالاً حياً على هذه السياسات.
وفي الجهة المقابلة، وَجَدَ هذا التوجّه نوعاً من القبول الضمني، وحتّى المُعلَن من الأميركيين والأوروبيين، وفق مقايضة صامتة تقوم على إرخاء الحبل للدكتاتوريات العربية مقابل عدم الخروج عن النصّ، أي ضمن ثلاثية: التطبيع والنفط والاستقرار. والغريب أنّ القوى الدولية الكبرى تتصارع على كلّ شيء في الشرق الأوسط، ولكنّها تتحّد، كلّ لاعتباراته الخاصة، في دعم الدكتاتوريات أو في الحدّ الأدنى التعايش معها، باعتبارها أقلّ البدائل سوءاً، خصّوصاً أنّها لم تقصّر في موضوعات الهجرة والأمن مع الذهاب بعيداً في موضوع التطبيع مع إسرائيل، والاندماج في النظام الشرق أوسطي المطلوب.
أبرز العدوان على غزّة المعادلات الجديدة التي تشكّلت بعد ثورات الربيع العربي، والقائمة على توثيق أركان الاستبداد، المُختلطة بالتطبيع مع إسرائيل
خلافاً للأوهام التي استبدّت برؤوس القادة العرب بأنّ الثورات العربية كانت مؤامرة أميركية غربية ضدّهم، تقول الحقيقة السياسية الصلبة إنّ النظام الدولي ارتبك أشدّ ارتباك أمام الحركة المفاجئة والسريعة للشارع العربي، التي اختطفت على حين غرّة الرئيس بن علي، ثمّ التحق به مبارك، في وقتٍ كانت تتهيّأ فيه للتعايش مع واقع التوريث في أكثر من عاصمة عربية، حتّى يستمر الأبناء على نهج الآباء على هدى سيرتهم "غير العطرة"، ولكنّ هذه التغيرات المفاجئة والسريعة فرضت على الأميركيين التكيّف ومسايرة الموجة مؤقّتاً، تمهيداً لمحاصرتها تدريجياً، وفق سياسة الاحتواء والتحكّم التدريجي، في حين أنّ بعض القوى الأوروبية، مثل الفرنسيين مثلاً، رأت في هذه الثورات خطراً على وجودها، وتعاملت معها بمنطق الإلغاء والمحاصرة منذ البداية، وهذا ما يُفسّر دعمها المطلق لخليفة حفتر في ليبيا، ومبارك، وكلّ مشاريع الانقلابات والارتدادات اللاحقة في المنطقة. المهمّ هنا، الحفاظ على أسس التعاقد بين الدكتاتوريات العربية والعواصم الغربية، الذي يقوم على النفط، والقواعد، وإسرائيل.
أبرز العدوان على غزّة هذه المعادلات الجديدة التي تشكّلت بعد ثورات الربيع العربي، والقائمة على توثيق أركان الاستبداد، ووأد مطالب الحرية والكرامة المُختلِطة بالتطبيع والتحالف مع إسرائيل، في إطار نظام عربي مُطبّعٍ ومُنصاعٍ، مقابل تفويض دولي بأحقية الحكام العرب في ممارسة القمع وضبط "السكان المحليين"، ويستمدّ هذا التوجّه جذوره من ميراث استعماري مديد، منذ الفرنسيين والإنكليز، يرى أنّ الشارع العربي، الهائج والغاضب، لا يُؤمن جانبه، ومن ثمّ لا ينفع معه إلا تنصيب حكّام غلاظ يكسرون الرؤوس ويفرضون سياسات وخيارات فوقية، وهي الصيغة التي عبّر عنها دونالد ترامب بصريح العبارة: "دكتاتوريين مُحبّذين"، وهي ذاتها النظرية التي تلقى صدى في تل أبيب، ومنها إلى واشنطن من جديد. هنا، تتحدّد معضلة النظام الرسمي العربي الذي جمع بين شَرّين عظيمين: الاستبداد المُطْلَق مع التطبيع المفتوح، بما يُؤكّد حجم الترابط بين معركة الحرّية والديمقراطية ومواجهة قوى الاحتلال والهيمنة، في هذه الرقعة المنكوبة من العالم، وهي معركة لا مفرّ منها، في الأمس واليوم.