الخديعة في نيويورك والغدر في الضفة الغربية
يومان فقط فصلا بين تراجع السلطة الفلسطينية عن عرض مشروع قرار أمام مجلس الأمن الدولي يدين منح الحكومة الإسرائيلية تراخيص لتوسيع تسع بؤر استيطانية عشوائية (وبناء عشرة آلاف وحدة سكنية استيطانية جديدة في الضفة الغربية)، واقتحام قوات إسرائيلية مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية) وقتل 11 فلسطينياً وجرح عشرات آخرين. لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي يوم هذه الجريمة، صادقت الحكومة الإسرائيلية على بناء أكثر من ألف وحدة استيطانية في تجمّع مستوطنات "غوش عتصيون" جنوب بيت لحم، كما هدمت قواتها منزلين فلسطينيين في الولجة غرب بيت لحم، وديوك التحتا شمال أريحا، بحجّة أنهما شيّدا من دون ترخيص. المفارقات في هذا المشهد كثيرة، وهي شاهدٌ على التوهان الفلسطيني الرسمي، والتواطؤ الأميركي، والخداع الإسرائيلي.
كانت دولة الإمارات، وهي عضو حاليا غير دائم في مجلس الأمن، قد تقدّمت، الأسبوع الماضي، بتنسيق مع البعثة الفلسطينية في الأمم المتحدة، بمشروع قرار يدعو إسرائيل إلى "الوقف الفوري والكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة". وجدّد نص القرار التأكيد على أن إنشاء الدولة العبرية المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، والتي تشمل القدس الشرقية، ليست له أي شرعية قانونية ويشكّل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي. مباشرة تحرّكت الولايات المتحدة في محاولة لإجهاض التصويت على مشروع القرار، ذلك أنه يمثل إحراجاً لإدارة جو بايدن التي تعلن رسمياً أنها ترى في المستوطنات عقبةً أمام تحقيق السلام و"حلّ الدولتين"، لكنها، في الوقت نفسه، تشعر بأنها مُلزمة باستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار إدانة أممية بحقّ إسرائيل. ليس هذا فحسب، فواشنطن التي تُعَيِّرُ روسيا وتندّد باستخدامها الفيتو في وجه القرارات التي تدينها في مجلس الأمن، في ما يتعلق بغزوها أوكرانيا، لم تُرد أن يكشف عن وجهها القبيح هي الأخرى بهذه الطريقة الفظّة، وفي هذا التوقيت الحساس. من ثمَّ، كان الحل في الضغط على الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، للوصول إلى صفقة، خصوصا بعد أن تطوّعت بريطانيا لكسر "فترة الصمت" حيال القرار في مجلس الأمن خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، فتحقّق لواشنطن ما أرادته يوم الإثنين الماضي، مع سحب الإمارات مشروع القرار، ومرّة أخرى بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية.
كانت السلطة الفلسطينية قد أعلنت، منذ أسابيع، أنها أوقفت "التنسيق الأمني" مع إسرائيل، ويثبت للمرّة التي لا تُحصى عدداً أن هذا غير صحيح
مقابل ذلك، وافقت السلطة الفلسطينية والإمارات على صدور "بيان رئاسي" رمزي من مجلس الأمن، يدعو إلى إنهاء التوسّع الاستيطاني الإسرائيلي، وقد صوّتت لصالحه، يوم الإثنين الماضي، الدول الأعضاء الخمس عشرة، بما في ذلك الولايات المتحدة. إلا أن هذا جزء من الحكاية، وليس كلها، ففي الأمر تفاصيل أخرى، بعضها مسيء فلسطينياً، ونحاول هنا التلطيف من وقع الكلمات والتوصيفات. مباشرة بعد الإعلان عن "الصفقة" العتيدة، ودخولها حيز التنفيذ، كشف موقعا "والا" العبري و"أكسيوس" الأميركي أنها ما كانت لتتم لولا وجود قناة اتصال سرية رفيعة المستوى بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، تشمل "التنسيق الميداني". وفي التفاصيل التي ذكرها الموقعان، فإن وزير الشؤون المدنية الفلسطينية وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حسين الشيخ، كان بعث رسالة، عبر الأميركيين، إلى نتنياهو خلال محاولته تشكيل حكومته السادسة، أواخر العام الماضي، مفادها بأن السلطة على استعداد للتعامل مع حكومته بذريعة منع التصعيد الأمني. وبعد تشكيل نتنياهو حكومته، التي توصف بالأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، مطلع العام الجاري، تواصل الشيخ مع ديوان نتنياهو مرّة أخرى، وهذه المرّة جاء الجواب الإسرائيلي بالإيجاب، وجرى تكليف رئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، بتولي التنسيق مع الجانب الفلسطيني. وحسب الموقعين، الشيخ وهنغبي هما من بلورا اتفاق سحب مشروع القرار الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن.
إحدى المفارقات في هذا السياق أن السلطة الفلسطينية كانت أعلنت رسمياً، منذ أسابيع، أنها أوقفت "التنسيق الأمني" مع إسرائيل، والآن يثبت للمرّة التي لا تُحصى عدداً أن هذا غير صحيح. أبعد من ذلك، منذ تولي حكومة نتنياهو المسؤولية مطلع العام الجاري وحتى لحظة كتابة هذه السطور (صباح الخميس)، قتلت قوات الاحتلال 62 فلسطينياً، بينهم أربعة برصاص المستوطنين، و13 طفلاً، وثلاثة مسنين، وأسير في سجونها. ومع ذلك، لا تكتفي إسرائيل بتجريع السلطة الفلسطينية كؤوس المهانة، ولا يبدو أن السلطة ترتوي منها أبداً.
بعد قرار سحب مشروع القرار الإماراتي من التصويت عليه أمام مجلس الأمن، وافقت السلطة الفلسطينية على ذلك بعد جملة من الضمانات
لنعد إلى سريالية المشهد في مجلس الأمن يوم الإثنين الماضي، إذ في الأمر تفصيل أكثر مما ذُكر، وفيه ترسيخ للخلل الرهيب في مقاربة الجانب الرسمي الفلسطيني العلاقة مع إسرائيل. حسب تقرير لوكالة أسوشييتد برس، بعد قرار سحب مشروع القرار الإماراتي من التصويت عليه أمام مجلس الأمن، وافقت السلطة الفلسطينية على ذلك بعد جملة من الضمانات والتطمينات الأميركية تتضمّن: أولاً، دعوة رئيس السلطة، محمود عبّاس، إلى اجتماع في البيت الأبيض مع بايدن العام المقبل. ثانياً، مخاطبة واشنطن الجانب الإسرائيلي بهدف إقناعه بإعادة فتح قنصلية أميركية في القدس الشرقية. ثالثاً، تقديم مزيد من المساعدات المالية الأميركية للسلطة، فضلاً عن عرض إسرائيلي بزيادة عائدات الضرائب الفلسطينية بأكثر من 60 مليون دولار سنوياً مقابل إسقاط القرار. طبعاً، الكل يعلم أن العام المقبل هو عام الانتخابات الرئاسية الأميركية، وحتى لو تمَّ اللقاء بين بايدن وعباس، فإنه سيكون بروتوكولياً لا قيمة سياسية له. أما مسألة إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية فهي رهن بموافقة إسرائيلية، وهذا ما يبدو شبه مستحيل، خصوصاً بعد قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، عام 2017، وإقرار إدارة بايدن ذلك. وبالنسبة للمساعدات المالية الأميركية للجانب الفلسطيني، فمن الواضح الآن أنها نوع من الرشوة ومحاولة شراء التواطؤ ضد الذات. وفي ما يتعلق بالنقطة المتعلقة بإسرائيل، فإن عاقلاً لا يثق في الوعود الإسرائيلية، وهو ما ستشرحه السطور التالية.
استناداً إلى كواليس قرار سحب مشروع قرار الإمارات من مجلس الأمن، كما يقدمها موقع "أكسيوس" الأميركي، فإن إدارة بايدن ضمنت للجانب الفلسطيني الرسمي بأن إسرائيل قبلت الالتزام بعدة شروط، أهمها ثلاثة: تعلّق الحكومة الإسرائيلية، مؤقتاً، الإجراءات أحادية الجانب في الضفة الغربية لعدة أشهر، بما في ذلك بناء وحدات استيطانية جديدة. وقف عمليات إخلاء وهدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية عدة أشهر. تخفيض عدد الاجتياحات والعمليات العسكرية في المدن الفلسطينية عدة أشهر أيضاً. طبعاً، كلنا يعلم النتيجة، اجتياح نابلس، يوم الأربعاء الماضي، وارتكاب مجزرة وحشية فيها، أي بعد يومين من "الصفقة" في مجلس الأمن وإعطاء الفلسطينيين "الضمانات" السابقة. ثمَّ إعلان الحكومة الإسرائيلية، في اليوم نفسه، عن مزيد من الوحدات السكنية الاستيطانية في بيت لحم. فضلاً عن هدم منزلين فلسطينيين في بيت لحم وأريحا، وهو الأمر الذي جرى في اليوم نفسه كذلك. بمعنى أن "الضمانات" الثلاثة تبخّرت كأنها لم تكن، وهو الأمر الذي كان يعرفه مسبقاً أي صاحب عقل.
هل يسقُط الجانب الفلسطيني مجدّداً في الفخّ، أم أن السلطة الفلسطينية مصمّمة هيكلياً وبنيوياً لتكون في الفخِّ دائماً لا تملك فكاكاً منه؟
المفارقة الأكثر ألماً ومرارة لكل فلسطيني تتمثل في رد فعل السلطة الفلسطينية بعد الجرائم الإسرائيلية أخيرا، وكأنها لم تساهم في تهيئة الأرضية لها عبر وثوقها، مرّة أخرى، بأوهام "الضمانات" الأميركية والإسرائيلية. مباشرة أعلن وزير خارجية السلطة، رياض المالكي، تقدّم وزارته بطلب لعقد اجتماع طارئ في مجلس الأمن لإدانة ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين ولتوفير "الحماية الدولية" للشعب الفلسطيني. أما حسين الشيخ فغرّد عبر "تويتر" قائلاً: إن القيادة الفلسطينية "تدرس بعمق اتخاذ خطوات على المستويات كافة"، وذلك "في ظل استمرار الجرائم الإسرائيلية". لا أعرف من سيثق بالسلطة وقادتها بعد اليوم، ولكنها متوالية لا تكاد تنتهي، وكل مرّة يريد بعضهم تصفير العدّاد. بالمناسبة، جاء ردُّ الفعل الأميركي على الجريمة الإسرائيلية في نابلس على لسان المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، الذي قال إن واشنطن تتفهم المخاوف الأمنية لإسرائيل، لكنها قلقة للغاية بسبب العدد الكبير من الإصابات والقتلى المدنيين. وأضاف: "أجرينا محادثات مثمرة في الأيام الأخيرة مع الأطراف وشركاء الولايات المتحدة الإقليميين، لدعم الجهود المبذولة لمنع مزيد من العنف".
هل يسقُط الجانب الفلسطيني مجدّداً في الفخّ، أم أن السلطة الفلسطينية مصمّمة هيكلياً وبنيوياً لتكون في الفخِّ دائماً لا تملك فكاكاً منه، وكثير من رموزها قابلون بهذا الحال، لا يرون بديلاً عنه؟ ... أرجّح المعطى الثاني.