الحياة في ظلال التواصل الاجتماعي
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرّد وسيلة ترفيه، كما حين تشكلت في السنوات الـ10 والـ15 الأخيرة، خصوصاً "فيسبوك" و"تويتر"، بل تحوّلت إلى مغناطيس جذبَ بشرا كثيرين إلى ساحتها، مع توسيع هوياتها إلى منصاتٍ أخرى مثل "إنستغرام". القدرة على الولوج إلى الأعماق النفسية لكل فرد هي السلاح الأقوى لهذه الوسائل. وهي واحدٌ من أشكال التسويق بحسب المفاهيم الرأسمالية. اللعب على حاجات الناس، لدفعهم إلى تلبيتها أمر أساسي في بيع أي منتوج. أَسَرت تلك الوسائل الناس في محيط ضيّق وصغير، وجعلت كل عالمهم في هاتفٍ أو "لابتوب". ربما لن يكون الأمر سيئاً للأجيال المولودة ما قبل وجود هذه الوسائل، لكنه سيكون في غاية الأهمية، إن لم يكن مترابطاً بصورة عميقة، للأجيال التي أبصرت النور مع بروز هذه الوسائل.
توقفوا لحظة وتأملوا كيف أنكم تنتظرون إعجاباً أو تعليقاً من مطلق شخص، وكيفية تأثير ذلك على حياتكم اليومية، فرحاً أو حزناً. بالطبع، فات أوان التحكّم الجماعي الاختياري بهذه الوسائل. الوضع تحوّل إلى إدمانٍ حقيقي. أظهر فيلم "the social dilemma" على منصّة "نتفليكس" بعضاً منه، لكنه لم يظهره بالكامل. صحيحٌ أن الفيلم تحدّث عن كيفية اختراق مشاعر البشر والتحكّم بها، إلا أنه لن يضع حداً للانغماس البشري إلى حدّ الذوبان في عالم وسائل التواصل الاجتماعي. ليس هذا المطلوب منه أصلاً. المسألة أضحت أعمق من ذلك. التكامل بين تلك الوسائل وتشكيل الرأي العام في المستقبل سيأتي بنتائج أكثر كثافة مما كانت عليه نتائج الترابط بين جيل الشباب في ستينيات القرن الماضي المتحوّل إلى جيل قائدٍ في الثمانينيات، وتأسيسه حقبة جديدة من التطور الثقافي المبني على الموسيقى وباقي تحولات الستينيات. ستكون نتائج وسائل التواصل الاجتماعي، بعد سنوات قليلة، مختلفة تماماً عما نتوقعه، لسببين أساسيين. الأول، أن سرعة تأقلمنا، نحن البشر، أبطأ بكثير من سرعة التطور التكنولوجي. بالتالي، سيدفعنا التأقلم الإلزامي إلى استنباط آراء ومواقف محدّدة. أو بشكل أوضح: سنكون موجّهين نحو أنماط معينة من التفكير واستخلاص الأجوبة. الثاني، فقدان قدرتنا على التحكّم بمسار هذه الوسائل، خصوصاً إذا توسعت في سياق تلبية حاجاتنا، وفقاً للتسويق الذي يستغل نقاط ضعفنا نحن البشر.
لمن لا يزال يتذكّر، سيدرك أنه حين بدأ عهد وسائل التواصل الاجتماعي، كان الولوج إليها أشبه بزيارة مرة كل 4 أو 5 أيام، ولدقائق خاطفة لأنه "لم يكن هناك ما يستوجب تضييع الوقت من أجله". اليوم تبدّل المسار، وباتت "الدقائق الخاطفة" لحظات الراحة عن تلك الوسائل. وإذا كانت الأجيال التي سبقت وسائل التواصل الاجتماعي متأثرةً، بشكل كبير، بما يصدر عنها، فإن الأجيال التي رافقت ولادة تلك الوسائل ستحيا على وقع عالم جديد، مغاير لما نعرفه.
كل شيء يصدر عن تلك الوسائل، فضلاً عن "يوتيوب" سيكون "حقيقياً" أو على الأقل "مدعاة للنقاش الجدلي". الكتب ستتحول، مع الوقت، إلى تحفٍ متناثرة في مكتباتٍ وطنية أقرب إلى متاحف. السرعة لن تسمح لأحد بالصبر، ولا حتى بالغوص في نقاشات عميقة حول ملفات متأصلة في تاريخ البشرية، بل ستسمح بتفاعل لحظوي عاطفي مع مطلق حدث فقط، من دون أن يتوقف القطار. تخيلوا أنكم كنتم في الشارع، ورأيتم شخصاً يهرول نحو مكان ما، ثم رأيتم شخصين آخرين يهرولان معه، ستبدأون أنتم بالهرولة من دون التفكير إلى أين ولماذا. ربما قد يكون هذا الأمر نوعا من "سيكولوجيا الجماهير" لغوستاف لوبون، لكنه مشابه تماماً لتسارع وسائل التواصل الاجتماعي. الأهم أن الشيء المشوّق لم يأتِ بعد، فنتائج الستينيات برزت في الثمانينيات. أما نتائج وسائل التواصل الاجتماعي، فلن تكون بعيدة زمنياً، بحكم أن التطوّر، مثل كرة ثلج، يكبر ويتسارع ككتلة وثقل بشكل دائم.