"الحرب والسلم" بين التاريخ والسيرة الذاتية
هي رائعة ليو تولستوي الشهيرة التي تحوّلت معلما أدبيا عالميا يعرفه الداني والقاصي، وإن لم يكن كثيرون قد تجرّأوا على قراءته. والعمل الملحمي الذي أثّر على العالم الأدبيّ، وما زال يفعل، يجمع بين التأملات السياسية والفلسفية، إلى جانب توصيف بارع للوسط الأرستقراطي الروسي الذي ينتمي تولستوي إليه، بما يتضمّنه من مؤامراتٍ وعلاقات حبٍّ وقصصٍ رومانسية، بينما يقترب شبحُ حربٍ ستؤثر بشكل كبير على المخيلة والذاكرة الجماعيتين. فالعمل الذي نُشر بدايةً على شكل سلسلة في صحيفة "الرسول الروسي"، بين الأعوام 1865 و1869، يروي تاريخ روسيا في أثناء الحملة التي شنّها نابوليون الأول على روسيا عام 1812، وفيه يعتمد تولستوي نظرية قدرية للتاريخ، حيث الإرادة الحرّةّ ذات أهمية ثانوية، في حين تخضع جميعُ الأحداث لحتميةٍ تاريخيّةٍ لا خلاص منها. هذا وقد ترجم ليو تولستوي الذي كان متأثّراً بالثقافة الفرنسية ويتقن لغتها بامتياز، العنوان بنفسه بعد تردّد وحيرة، مضيفا ألف ولام التعريف ("الحرب والسلام") إلى العنوان الروسي الأصلي، مستلهماً بذلك عمل المنظّر الاشتراكي الفرنسي بيير جوزيف برودون (الحرب والسلام، 1861) ، الذي التقى به في بروكسل عام 1861، لكنه لم يشاركه أفكاره.
تبدأ الرواية بتعريفنا إلى عدد معيّن من الشخصيات، ومعظمها ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الروسية القديمة، وعالمها وطرق عيشها، مشيراً إلى ما يكمن تحت هذه القشرة من الأخلاق الجميلة وعظمة الروح، من تفاهة وخسّة وميول شريرة. فنحن سنرافق مصائر أفراد ينتمون بشكل أساسي إلى ثلاث عائلات، مع من يدور في فلكها من شخصيات أخرى. العائلات هي: آل روستوف، آل بولكونسكي، ومن بقي من أفراد آل بيزوخوف. وكما في روايته "آنا كارنينا"، يستخدم الكاتب بكثرة تفاصيل من سيرته الذاتية ومن حياة أفراد عائلته، فبيار بيزوخوف أو أندريه بولكونسكي يجسّدان في الواقع نواحي عدة من شخصيته هو، والأمر يتكرّر مع شخصية نيكولاس روستوف، حيث يصفّي تولستوي حسابه مع أوهام شبابه العسكري، حيث نتعرّف أيضا إلى شخصية والده الذي شارك في حملة روسيا. بعد بضع سنوات، سيُصبح نيكولاس شبيهاً بالكونت الريفي الذي كان قد أصبحه تولستوي حينما كتب رائعته "الحرب والسلام". تضاف إلى ذلك حقيقة أن ملكية عائلة بولكونسكي في ليسيا غوري تشبه، إلى حدٍّ بعيد، ملكية عائلة المؤلف في ياسنايا بوليانا، وأن جدّه كان يدعى نيكولاي فولكونسكي ويتشابه، بشكل مذهل، مع نيكولاي بولكونسكي، والد الأمير أندرو، الذي كان مساعدا لكوتوزوف الحقيقي عام 1812. بهذا، نجد المؤلفَ وقد وزّع جدّه على شخصيتين هما نيكولاس وأندريه بولكونسكي.
بالطبع، هناك التاريخ بأحداثه وتفاصيل المعارك والحملة الفرنسية على روسيا، إنما هناك أيضا آراء ذاتية ونظرة خاصة وسخرية من العبقرية العسكرية التي نُسبت إلى نابليون الذي يصفه تولستوي سميناً، مركّزاً على يديه البيضاوين الممتلئتين، وكيفية استعداده عشية المعركة بالاغتسال وتعطير نفسه بالكولونيا، مقابل وصفه الجنرال كوتوزوف الذي يتميّز بتواضعه وكرامته الإنسانية وعظمة روحه.
الألم حاضرٌ تنضح به الصفحات، إذ ما هو أكثر قسوة من الذهاب إلى الحرب، بعد خلاف مع الوالد في العشية؟ أشجع الجنود يعودون أطفالا مع اقتراب الموت، فإذا بهم يكتشفون جمال السماء، وينتحبون وهم ينادون أمهاتهم. التواضع، والتضحية بالنفس، والبُعد الجماعي للحقائق، هي بعض الرسائل العديدة التي يريد تولستوي إيصالها إلينا نحن القرّاء، فلكلٍّ منا، مهما كان دورُه صغيراً، مساهمة في بناء التاريخ، حيث يتحوّل العظيم بغروره صغيراً جداً.