الحرب في السُّودان: أزمة مركّبة وملامح رؤية لما بعدها
أكَّدت الحرب الدائرة في الخرطوم وبعض الولايات أنَّ السُّودان يعاني من أزمة سياسية وفكرية وعسكرية مركّبة. ويتمثل ضلعُها السياسي في فشل الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال في وضع أسسٍ راسخة لحكم السُّودان، ووضع آليات مناسبة لإدارة تنوّعه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي؛ ويتمثَّل ضلعها الثاني (السياسي - الفكري) في عجز المؤسّسات الحزبية، التي أفسد أداؤها السياسي استدامة التحول الديمقراطي، وعطّلت الانقلابات العسكرية الناتجة من سوء هذا الأداء حركة نموّها الطبيعي، فحوّلتها إلى كيانات تفتقر إلى المؤسّسية والدافع الديمقراطي الذاتي، والرؤية المستقبلية لإدارة الحكم في السُّودان. فكان حصيلة ذلك تشظّيها إلى كياناتٍ متخاصمةٍ حسب طموحات قياداتها الشخصية وولاءاتها الطائفية وتحالفاتها القبلية. وفي ظلّ التقلّبات السياسية والنزعات الحزبية، برز الضلع الثالث المتجسِّد في انحراف القوات المسلحة عن اختصاصاتها المهنية المنصوص عليها دستوريًا؛ لحماية حدود البلاد السياسية وأمنها القومي، بل على النقيض من ذلك، أضحت القوات المسلحة مستجيبةً لإفرازات الصراعات الحزبية، التي ألقت بظلالها على تكوينها المهني ودورها الوظيفي. وبموجب ذلك، ضمر دور الحكومة المركزية، وظهرت الحركات المسلحة ذات النشأة المطلبية، والمليشيات الرديفة للقوات المسلحة التي وظفتها لحماية الأنظمة الحاكمة وتنفيذ أجندتها السياسية، وصاحب ذلك تنامي النعرات القبلية والجهوية. وأفضى تراكم الحصيلة إلى ضعف إرادة الحكومة المركزية المفترض أن تكون محتكرةً سلطة العنف وتوظيفها حسب مقتضيات التشريعات القانونية، وتعدّدت مراكز صنع القرار السياسي خارج مؤسّسات الدولة الحاكمة.
وباندلاع حرب 15 أبريل (2023) ظهرت هذه العيوب الهيكلية في بنية الدولة السُّودانية، وأوجدت اصطفافًا غير حميدٍ في المجتمع السُّوداني، في ضوئه أضحى الذين ينادون بضرورة إيقاف الحرب يُوصفون بأنهم يساندون قوات الدعم السريع المتمرّدة على القوات المسلحة؛ والذين ينادون باستمرار الحرب للقضاء على قوات الدعم السريع يصنّفون أنهم يناصرون عناصر النظام القديم التي تسيطر على قرار القوات المسلحة. وقد أجّجت هذه الخصومة الثنائية المدمّرة وسائط التواصل الاجتماعي، التي استغلّتها الأطراف المتصارعة لتجييش الرأي العام، من دون تثبت من صحة الأخبار أو كذبها؛ لأن سردياتها الخطابية لا تستند إلى وازع قيمي، يقدّم الأعلى (مصلحة الوطن) على الأدنى (مصلحة الحزب أو القبيلة أو الجهة). لا جدال في أن هذا الاصطفاف المدمّر دفع بعض المهتمين إلى البحث عن مخارج آمنة من الأزمة الراهنة قبل أن يصبح السُّودان أثرًا بعد عين. وعمد معظم هؤلاء إلى تقديم مقترحاتٍ جوهرية، تشكّل أسّ الأزمة المزمنة، ويمكن أن تسهم في وضع حلول تأسيسية.
باندلاع حرب 15 أبريل ظهرت العيوب الهيكلية في بنية الدولة السُّودانية، وأوجدت اصطفافًا غير حميدٍ في المجتمع السُّوداني
قد استوقفني في شأن ما بعد الحرب مقال للواثق كمير بعنوان: "سودان ما بعد الحربِ: ملامح من رؤية !!" نشر في موقع سودانايل (10/12/2023). وقد أسّس كمير ملامح رؤيته على ركيزتين. أولاهما، "تكوين جيش مِهني، يستبعِد وجود أي تنظيم سياسي داخله، ويخضع للإصلاح والتطوير، سويًا مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوّع والتعدّد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً". وقد طرح الطيب زين العابدين هذه القضية من زاوية أخرى، في مقال باكرٍ بعنوان "إعادة بناء الجيش السُّوداني أهم قضايا المرحلة الانتقالية" في موقع سودانايل (22/06/2019)"، واقترح أن تكون عملية إعادة البناء عبر "لجنة مهنية ذات كفاءة ورؤية من قدامى جنرالات الجيش السُّوداني المشهود لهم في تاريخ العسكرية. وبالطبع، ستكون تلك الخطّة طويلة المدى محل نقاش وتشاور في كافة أفرع المؤسّسة العسكرية قبل أن تجاز من هيئة رئاسة الأركان المشتركة العليا وتصبح قابلة لبدء تنفيذها أثناء المرحلة الانتقالية ثم تستكمل فيما بعد. فليس هناك من بلد حديث لا يُعنى بتطوير قواته المسلحة تجنيدًا وتأهيلًا وتدريبًا وآليات ومعدّات ذات تقنية عالية، فقد اضطربت الأمور في منطقتنا الأفريقية والشرق أوسطية، وكثرت فيها المخاطر الداخلية والخارجية. وعليه يتوجب أن تكون مهمّة بناء الجيش السُّوداني أحد القضايا الكبيرة التي تهتم بها المرحلة الانتقالية، خاصة عند تحقيق السلام مع الحركات المسلّحة، ودمج هذه الحركات في جيشٍ قوميٍّ مهنيٍّ له نظام موحد".
ويؤكّد طرح مصطلحي "إعادة الهيكلة" و"إعادة التكوين"، بالرغم من الفارق الزمني بين المقالين، أن قضية تأهيل جيش مهني واحدة تحظى بإجماع واسع في أوساط علماء الاجتماع والسياسة، بالرغم من الاختلاف المفاهيمي بين المصطلحين. وتقتضي معرفة الفرق بينهما النظر في مقال العميد الركن (م) حيدر المُشرَّف: "نحو بناء أجهزة أمن وطني بمفاهيم جديدة" في موقع النيلين (17/7/2021)، الذي شرحهما شرحًا مفاهيميًا مفيدًا. وصف المُشرَّف في مقدمة شرحه أنَّ عملية إصلاح أجهزة الأمن الوطني (القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والشرطية) تمثل "حجر الزاوية في ... إعادة بناء الدولة السُّودانية المدنية". وبناءً على ذلك، أبان أن إعادة الهيكلة (Structural Review) "تعني الإبقاء على ما هو موجود، وترميمه، وربما تغيير الواجهات أو إلغاء البعض منها"، فهي عملية تشبه، من وجهة نظره، وضع الخمرة المعتّقة في قنّينةٍ جديدةٍ. أما إعادة التكوين (Reconstitution) فتعني إعادة التأسيس وفق رؤية جديدة، وأعمدة جديدة (عقيدة)، ومفاهيم جديدة. واستشهد في ذلك بإعادة تأسيس (تكوين) الجيش الألماني بعد الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)؛ حيث أصبحت عقيدته ذات طابع دفاعي. وبموجب ذلك، قُلِّصَت أعداد الجند، الذين خضعوا لتدريباتٍ مكثفة في مجال الدفاع عن حدود ألمانيا الغربية وأمنها القومي، وبالكيفية نفسها خضع الجيش الياباني إلى إعادة تأسيس ذات عقيدة دفاعية. ويقترح المُشرَّف أن تعقب ذلك سياسة خصخصة (Privtization)، تحول بعض مؤسّسات القوات المسلحة القابلة لذلك إلى القطاع الخاص من أجل تخفيف النفقات، علمًا أن الوظائف الإدارية (مثل: السائقين والطبّاخين وحرّاس بيوت الجنرالات والمرافق العامة) التي يمكن الاستغناء عنها تبلغ نحو 40% في القوات المسلحة. ويرى المُشرَّف أن عملية إعادة التأسيس (أو التكوين) يجب أن تشمل الأجهزة الشرطية والأمنية أيضًا.
الظروف الموضوعية والذاتية التي أفرزتها حرب 15 أبريل، جعلت عملية إعادة تأسيس الدولة السُّودانية ضرورة ملحّة
أما الركيزة الثانية في ملامح رؤية كمير فترنو إلى الانعتاق من قيود الصراع السياسي في سبيل الجلوس على مقاعد "السلطة الانتقالية" الدستورية إلى فضاء التوافق السياسي لـ"تأسيس الدولة"؛ لأن تأسيس الدولة سابقٌ لتبنّي الديمقراطية أداةً لتداول السلطة؛ فضلًا عن أن تجارب الانتقال الديمقراطية الثلاث (1964، 1985، 2019) السابقة في السُّودان، قد أثبتت فشلها، حسب وجهة نظر كمير، وإن الأخيرة منها قد شهدت انقلابًا عسكريًا في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 واندلاع حرب مدمّرة في 15 أبريل/ نيسان 2023 قبل اكتمال الفترة الانتقالية. ويضاف إلى ذلك تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي أفرزتها حرب 15 أبريل، التي جعلت عملية إعادة تأسيس الدولة السُّودانية ضرورة ملحّة، يجب أن يشترك فيها جميع السُّودانيين، كما يرى كمير، "بما ذلك الجيش والقوات النظامية، دون إقصاء، إلا حزب المؤتمر الوطني (بشخصيته الاعتبارية)، ومن أجرم وأفسد". ولذلك، يرى كمير أن الشرعية الثورية التي استندت إليها حكومة عبد الله حمدوك بغية الوصول إلى الشرعية الدستورية قد انكمشت قاعدتها الجماهيرية، وأضحى من العسير تحقيق الشرعية الدستورية المُفضية إلى الانتخابات العامة من دون تحقيق "الشرعية التوافقية". ولتحقيق الشرعية التوافقية، يدعو كمير القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني إلى التسامي فوق خلافاتها وجراحاتها الحزبية لمصلحة الوطن، وإعادة تأسيس الدولة السُّودانية بمشاركة الجميع؛ ليشعروا بمسؤوليتهم تجاه الكسب المشترك الذي حقّقوه ويحافظوا عليه في إطار "رؤية الكل منتصر، أو الكلّ يكسب". وتبدأ الخطوة الأولى لعملية إعادة التأسيس بتشكيل حكومة مدنية "من أكفاءٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ مُستقِلةٍ عن الحزبية السياسية"، يستند برنامجها التأسيسي إلى مُهمتين رئيسيتين: أولهما: "وضع خطط إعادة البناء والتعمير، ومتابعة القضايا الإنسانية، وعلى رأسها توفير الأمن وحماية المواطنين المدنيين، وعودة النازحين واللاجئين إلى مواقعهم الأصلية، وإعادة تفعيل الخدمات الحكومية من صحّة وتعليم، وقضايا المعيشة اليومية، وكل ما من شأنه عودة الحياة الطبيعية". وثانيتهما: "اتّخاذ كل التدابير اللازمة لتهيئة المناخ للعملية السياسية التأسيسية وإتاحة الحريات العامة للعمل السياسي". وتكون الحكومة مسنودة بهيئة قومية، تشترك في اختيارها "كافة القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشبابية (وأن يكون تمثيل الشباب مضمّنًا في هذه القوى) ولجان المقاومة، والتنظيمات النسائية، ومُمثلين للولايات، (باستثناء من أجرم أو أفسد)، وحركات الكفاح المسلح، ومن الشخصيات الوطنية وقيادات الرأي العام، والمغتربون، ورجال وسيدات الأعمال، والقوات النظامية". وتتبلور مهمّة هذه الهيئة القومية في ترشيح رئيس الوزراء المدني، وتقييم أداء الحكومة وتقويمه، وتشكيل المؤسّسات والآليات اللازمة لتنفيذ هذه المهام... وعقد المؤتمر القومي الدستوري والاستفتاء على مسودة الدستور الصادرة منه، وقيام الانتخابات، وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيةٍ مُنتخبةٍ، تُدشن مرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي".
إعادة بناء الدولة التي تسع الجميع، وتطبّق مبادئ العدالة الانتقالية ومعايير التميز الإيجابي لتنمية الولايات التي تأثرت بالحرب
ولا جدال في أنَّ ملامح رؤية الواثق كمير جديرةٌ بالنقاش الجادّ والتدبّر الموضوعي، والتحاور في الأسئلة التي طرحها في نهاية مقاله: كيف يحدُث التوافق لاختيار أعضاء الحكومة المدنية؟ وكيف يحدُث التوافق لاختيار أعضاء الهيئة القومية الجامعة والمؤتمر الدستوري؟ هنا مربط الفرس! وتجاوز هذه التحدّيات يقوم على مرتكزين، أحدهما أخلاقي وثانيهما فكري- سياسي. ويتمثَّل الأخلاقي في تقديم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الضيقة، ويتجسّد الفكري - السياسي في إجراء حوار موضوعي ومهني شامل لكل القضايا التأسيسية بحضور توافقي جامع لأصحاب المصلحة؛ لإعادة بناء الدولة التي تسع الجميع، وتطبّق مبادئ العدالة الانتقالية ومعايير التميز الإيجابي لتنمية الولايات التي تأثرت بالحرب، والتي تعاني من مشكلات الفقر والمرض والجهل المزمنة. لكن كيف السبيل إلى ذلك هداكم الله.