الجريمة المسكوت عنها
وها هي فكرة التهجير القسري للفلسطينيين عن أراضيهم تعود مرّة أخرى إلى الفضاء العام باعتبارها حلاً وليست مشكلة، لتخليص الضمير الإنساني من تبعات ما تقترفه "إسرائيل" بالفلسطينيين المتمسّكين بأراضيهم.
منذ بدء الاحتلال الصهيوني لفلسطين في العام 1948، والفلسطينيون يتعرّضون للتهجير القسري لهم من مدنهم وقراهم إلى مدن وقرى أخرى داخل فلسطين أولاً، ثم إلى خارج فلسطين كلها ثانيا، ما سهّل من عملية الاحتلال باعتبار أن فلسطين هي أرض بلا شعب، أو أنها أرضٌ لشعبٍ هاجر عنها وتركها وربما باعها، وبالتالي من حقّ يهود العالم أن يتّخذوها وطنا لهم.
ومع أن التهجير القسري، أي إبعاد السكّان عن أراضيهم الأصلية بشكل مؤقت أو دائم، وعلى غير رغبتهم وإرادتهم الحرّة، يعتبر وفقا لنظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية، جريمة حربٍ وإبادة جماعية، إلا أن أميركا ودول الغرب الحاضنة الأساسية لقوانين الأمم المتحدة غضّت الطرف عن التهديد الصهيوني بتهجير سكّان غزّة خلال ساعاتٍ قليلةٍ عبر استخدام القوّة المفرطة تجاههم قصفا وقتلا وتهديما للبيوت والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس وكل مباني مستلزمات الحياة في القطاع.
لكن من الجيد أن مصر والأردن ومعظم الدول العربية الأخرى، ولأسبابٍ كثيرة، ساندت فكرة رفض تهجير أهل غزّة إلى مصر والأردن، كما خطّطت لها وبدأت بتنفيذها حكومة الكيان الصهيوني تحت سمع العالم ونظره في أثناء العدوان الحالي. ولكن من السيئ أن هذه الدول لم تقدّم بديلا عمليا وفوريا للفكرة التي تبنّاها الصهاينة شرطا لوقف القصف على غزّة. وهذا قد يعني دعوة "إسرائيل" إلى الإمعان في تقتيل الفلسطينيين وحرمانهم من كل مقوّمات الحياة لإخلاء المكان منهم بالموت أو بالهجرة الاضطرارية القسرية!
وعندما يتعلّق الأمر بفكرة تهجير سكّان غزّة إلى مصر والأردن أو أي بلد آخر بناءً على طلب "إسرائيل"، فهناك عدّة جوانب لفهم القضية بشكل كامل.
يجب أن نتذكّر أن سكان غزّة هم مواطنون فلسطينيون يعيشون في أراضيهم الأصلية ويمتلكون حقوقاً أساسية في العيش والبقاء في مجتمعهم. ويعدّ التهجير القسري لهم انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي، يعرّضهم للتشرّد والفقر وفقدان الهوية والانتماء، ويخلّ بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة ككل، ويفكّك الأسر، بالإضافة إلى خطره في تأبيد فكرة الاحتلال تاريخيا، وقطع الأمل بتحرير الأرض تدريجيا.
ومن الواضح أن أي طلبٍ مباشر أو غير مباشر من الحكومة الصهيونية لتهجير سكّان غزّة يعني أنها تسعى إلى التخلّص من المسؤولية عن السكّان، حتى في إطار احتلالها فلسطين واعتراف معظم العالم بها دولة للأسف، وتفريغ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بهم في دولٍ أخرى مجاورة. وهذا، بالإضافة إلى أنه جريمة أخلاقية وقانونية، خطر ليس على غزّة وحسب، بل أيضا على كل الدول التي تتماسّ مع الأمر بشكلٍ أو بآخر.
على الرغم من أن رفض تهجير سكّان غزّة إلى دولة أخرى يُعَدُّ قراراً إيجابياً، إلا أنه ليس كافياً، فمن المهم أن يستعدّ المجتمع الدولي للعمل على توفير فرص الحياة الكريمة والتنمية الاقتصادية في غزّة، منذ الآن، من خلال دعم المشاريع الاقتصادية وتعزيز الاستثمارات وتوفير فرص العمل. يمكن أن يكون ذلك من خلال تعزيز التجارة والتعاون الاقتصادي مع غزّة، وتشجيع الشركات على الاستثمار في القطاع وتوفير فرص العمل للشباب.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أيضًا تعزيز الجهود الدولية لإعادة إعمار غزّة وتوفير البنية التحتية اللازمة، مثل الإسكان والمدارس والمستشفيات، وتوفير الخدمات الأساسية للسكان، باعتبار أن ذلك كله سيساهم في مكافحة هذه الجريمة المسكوت عنها مقارنة بجرائم الكيان الصهيوني المكشوفة الأخرى.