التنمّر القاتل
هل التنمّر ظاهرةٌ جديدة، أم أن المجتمع أصبح أكثر حساسية تجاه الأمر الذي كنّا نعيشه ونحن صغار وننساه في اليوم التالي؟
أخبرتني صديقتي المعلّمة التي تعمل في التدريس منذ أكثر من 30 عاما بأنها بدأت، منذ سنوات قليلة، ترصد زيادة في حالات التنمّر بين الطالبات في المدرسة الثانوية التي تعمل فيها، وأن ما رصدته رصده معظم من تعرفهم من المعلّمين والمعلّمات المخضرمين. وعندما قلت لها إن التنمّر موجود منذ أيامنا والمصطلح هو الجديد، قالت: لا.. ما كنّا نفعله ونواجهه ونحن على مقاعد الدراسة لا يقارَن بحالات قاسية قد تؤدّي، أحياناً، في بعض الضحايا، إلى التفكير بالانتحار. وذكّرتني بحالة انتهت بطالبة إلى أن تنتحر، لأن زميلاتها كن يعايرنها بجنسية والدتها الآسيوية.
وما قالته الصديقة بأسى عن زيادة حالات التنمّر في المدرسة التي تعمل فيها في السنوات الأخيرة يعكس مشكلة خطيرة تواجهها المدارس في جميع أنحاء العالم، فعلى الرغم من أن التنمّر ليس ظاهرة جديدة، إلا أن زيادة الوعي بها وتسليط الضوء عليها قد يساهمان في انتشارها وزيادة تواترها كما يبدو.
ويمكن أن يكون لتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا دور كبير، ففي عصر التواصل الرقمي أصبح الطلاب عرضة للتنمّر عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن للمعتدين أن يتنمّروا على الآخرين من دون ملاحظتهم مباشرة. وكلنا نرصد كيف ينتشر التنمّر والتشهير عبر التعليقات السلبية في حسابات التواصل، ما يترك آثاراً عميقة على الطلاب المستهدفين في سنٍّ يكونون فيها عرضة للخطر المباشر.
ويمكن أن تؤثر عوامل اجتماعية وثقافية في انتشار الظاهرة أكثر وأكثر. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدّي التمييز العرقي أو الديني أو الجنسي أو الاجتماعي إلى تصعيد التنمّر وتكراره في المدارس التي تفتقر لوجود بيئة مدرسية صحّية ومشجّعة، حيث يشعر الطلاب بعدم الانتماء والعزلة.
تقول صديقتي المعلّمة المخضرمة إن كل محاولاتها لمواجهة الظاهرة في المدرسة التي تعمل فيها على الأقل قوبلت بالرفض أو التجاهل، فالأمر يتطلب تعاوناً مشتركاً بين المعلمين والمدرسة وأولياء الأمور والمجتمع. ولذلك ينبغي أن يعزّز الوعي بأهمية مكافحة الظاهرة وكل ما يشجّع عليها بتوفير برامج وورش عمل تعليمية تهدف إلى تعزيز التسامح والتعاون واحترام الآخرين.
ويجب تشجيع الطلاب على الإبلاغ عن حالات التنمّر وتوفير آليات آمنة وسرّية للإبلاغ، وأن يكون هناك نظام انضباطي صارم يتعامل بجدّية مع الحالات ويفرض عقوبات على المعتدين. يجب أن تكون المدارس مكاناً آمناً يوفّر الدعم العاطفي والاجتماعي للجميع، ويعمل على تعزيز الثقة بالنفس وتنمية مهارات التعامل مع الصعوبات.
تقول الصديقة: تخيّلي أن هناك طالباً جديداً ينضمّ إلى صف جديد، ويكون مهووساً بالقراءة، ويظهر اهتماماً عالياً وغير مألوف بالكتب، بالإضافة إلى المواد الدراسية، فيبدأ بعض الطلاب الآخرين في الصف بالتنمّر عليه عبر السخرية منه، بسبب اهتمامه بالدراسة والقراءة. يطلقون عليه ألقاباً مسيئة علناً أمام بقية الطلاب. يسرقون كتبه ومذكّراته ويخفونها، ما يتسبب في فقدانه المواد الدراسية والمعلومات التي يحتاجها للدروس. يستهدف عاطفياً أيضاً، بحيث يتجاهله الجميع في الفصل ويعزلونه.
تستمرّ الحملة على الطالب الجديد فترة طويلة، ما يؤثر على ثقته بنفسه، ويسبّب له الإحباط والاكتئاب. يشعر بالعجز في محاولته التكيّف مع البيئة المدرسية، ويعاني من صعوبة في تحقيق أدائه الأكاديمي الكامل. تقول المعلّمة إن هذه الحالة حدثت بالفعل في مدرسة تعرفها وتذكرها للتدليل على أن التنمّر قد يحدُث تجاه طالب فقط بسبب اختلافه في الاهتمامات أو المظهر أو أي سمةٍ أخرى يمكن أن تميّزه عن الآخرين حتى وإن كانت سمة إيجابية.
وتمتدّ آثار التنمّر إلى المجتمع بأكمله، إذ يؤدّي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية وانعدام التعاطف والتسامح. وينعكس ذلك في زيادة معدّلات العنف والتوتر والتمييز. تتأثّر الأماكن العامة، مثل المدارس ومكاتب العمل والأحياء، حيث ينخفض مستوى الأمان وتنخفض جودة الحياة بشكل عام. وهو ما يؤكّد ضرورة أن تعمل المدارس على توفير بيئة آمنة وداعمة للطلاب، بتعزيز ثقافة الاحترام والتسامح. كما ينبغي تشجيع الأسر على التواصل الفعّال مع أبنائهم وتعزيز الثقة بالنفس لديهم وتعزيز قيم التسامح والمساواة.
علاوة على ذلك، يجب أن تلتزم وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي بتعزيز السلوك الإيجابي والحوار المثمر، وعدم التهاون في مكافحة التنمّر الإلكتروني الذي قد يؤدّي، بالفعل، في بعض الحالات، إلى الموت.