التنمية و/ أو الديمقراطية
يحتفي بعض متطرّفي اليمين بإنجازات اقتصادية يزعمون أن تحقيقها لم يكن ليكتب له النجاح والازدهار إلّا بفعل تبنيها من قادة صلبين، تميل أنظمتهم السياسية إلى الاستبداد الذي يعتبرونه عادلا. وفي الأدبيات الغربية التي تتبنّى هذا الطرح، ترد في رأس اللائحة أسماء تركت أثرا سلبياً، أقله على المستويين، الأخلاقي والإنساني، كما الضابط أوغستو بينوشيه في تشيلي الذي نفّذ انقلاباً سنة 1973 بدعم أميركي على الرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديمقراطياً، مؤسّساً لديكتاتورية عسكرية اعتمدت القتل والتعذيب والإخفاء القسري منهجاً للتعامل مع معارضيها حتى نهايتها سنة 1990. وكما الضابط فرانشيسكو فرانكو في إسبانيا الذي قام بالانقلاب على النظام الجمهوري الديمقراطي سنة 1936، وأطلق حرباً دموية أراقت دماء عشرات الآلاف حتى سنة 1939، ومتابعاً حكم البلاد بالحديد والنار، مقبولاً من الغرب الديمقراطي، حتى وفاته سنة 1975، على الرغم من جرائمه واستبداده ومحاربته إلى جانب دول المحور في أثناء الحرب العالمية الثانية.
أما شرقاً، فكثيرون ممن يُعتبرون ليبراليين اقتصادياً يحثّون الخطى لترويج مستبدّين يدّعون أو يتكهنون بأنهم أصحاب رؤى ومشاريع تنموية ضرورية للنهوض بالبلاد، قبل الخوض في أي ملف سياسي أو اجتماعي آخر. ويقف في مطلع هؤلاء المُعجب بهم، الجنرال عبد الفتاح السيسي، ومنظومته العسكرية الحاكمة في مصر. وإلى جانب هذا الضابط الذي يرتكب التنمية، تقف سرية من القادة العرب الذين يمارسون الاستبداد السياسي تحت مسميات متنوعة ومتلونة، فمنهم من يضع أولوية التنمية الاقتصادية على حساب التحرير السياسي، ومنهم من يدّعي أن الشعوب ليست جاهزة بعد لدخول حديقة الديمقراطية الغنّاء. أما الآخرون، فهم يبحثون عن التجانس العرقي / المذهبي / الطائفي في مكونات الشعب الذي يُخضعه بالحديد وبالنار، معتمداً مبدأً نازياً بامتياز، التجانس، وساعياً إلى الادّعاء بإطلاقه المرتقب عملية تنمية المجتمع والاقتصاد. وأخيراً، هناك من يلبس لبوس الدعوة إلى الصبر مقدّماً التنمية الاقتصادية على حساب سواها، ومعتبراً أنها الشرط الأساس الذي يمكن لتحقيقه أن يُطلق مسار التحوّل الديمقراطي، فصبراً جميلاً.
الاستبداد يُعتبر عاملاً مساعداً في سبيل إطلاق عملية التنمية وتقدّمها وبلوغها الهدف المرجو
يستند أصحاب هذا الرأي المعجب بالمستبدين إلى: إما إيمانا عقائديا مرتبطا بأن طاعة الحاكم تسمح بالوصول إلى الأفضل، ولا يهم إن كان هذا الحاكم مستبدّاً، أو إلى تبنٍ محدود الزمن لهذه النظرية غير المتحققة عموماً في أي سابقة تاريخية معاصرة. ترتبط محدودية هذا التبنّي أساساً بما يمكن تسميته علم النفاق السياسي شديد الانتشار. كما هي تتعلق أحياناً بوصولية ذاتية أو جماعية يُعبّر عنها من دون وجل. وغالباً ما يقوم هؤلاء، من الاتجاهين، بتسويق الاعتقاد بإيجابية ونجاح هذه الأساليب وهذه الآليات التسلطية، مدّعين، ببساطةٍ يكتنفها الاستهزاء بالآخر، مهما كان هذا الآخر، وذكاؤه الفطري حتى، بأنّ الاستبداد، العادل، يضع صلب عينيه إطلاق عملية التحديث والتطوير في مختلف القطاعات الاقتصادية بعيداً عن أيّ مراجعة لنظام الحكم السياسي وممارساته.
يبدو إذاً أنّ الاستبداد يُعتبر عاملاً مساعداً في سبيل إطلاق عملية التنمية وتقدّمها وبلوغها الهدف المرجو، فالشعوب الخارجة من استعمار، أو من واقعٍ متخلّفٍ لعوامل عدة، تحتاج هذا المستبد المحلي الذي يأخذ بيدها نحو التطوّر، لأنّه يملك مشروعاً. وهو بالتالي سيبني المدارس، والجامعات، والجسور، والطرقات. كما أنه سيعمل على تنمية التجارة الداخلية، كما الاستيراد والتصدير، متيحاً لمن يمنحه الولاء المشاركة في تقاسم فتات الكعكة الضخمة التي يستحوذ عليها بمفرده.
التوسّع بالبنى التحتية في غياب المساءلة لا يمكن له إلا أن يكون وسيلةً لضخ المال الفاسد في عروق المستبد ومن يحوم حوله
يغيب عن مروّجي هذه الأساليب والمناهج أنّ أي استثمار في البنى التحتية أو أي تحرير للاقتصاد وتوسّع في عملية البناء والتحديث والتطوير لا يمكن له إلا أن يُشكّل حلقة مفرغة جديدة من سلسلة متشابكة من الحلقات المفرغة في غياب دولة القانون التي تعتبر الديمقراطية دعامتها الأصلب، فالتوسّع بالبنى التحتية في غياب المساءلة التي تستند في مصداقيتها على المجالس التشريعية المنتخبة بكل شفافيةٍ لا يمكن له إلا أن يكون وسيلةً لضخ المال الفاسد في عروق المستبد ومن يحوم حوله. كما أنّ افتقاد الحكم المستبد القضاء المستقل وخلط الوظائف سيؤدّي حتماً إلى ضياع حقوق القلة ممن صدق واستثمر في هذه المشاريع، الوهمي منها والحقيقي.
من جهة أخرى، لا يمكن للعملية التعليمية أن تتطوّر، وأن يجري تحديث المناهج وتوسيع المدارس وفتح الجامعات النوعية في ظل انعدام الحرية الفكرية اللازمة لتطوير المنطق السجالي المثمر. والبحث العلمي اللازم لدعم مسارات التطوّر التقني أو الفكري يحتاج هو أيضا لهامش واسع من الحرية ليؤتي أُكله، والتي يمكن أن تعمّ على المجتمع بكل مكوّناته. وحتى إن ادّعى المستبد ـ العادل ـ باستثماره في الفن وفي الثقافة، فهذا يمكن أن يتحقق من الناحية الشكلية فقط. ومن المستحيل أن يصل إلى مستوى الإبداع الضروري لتقدّم المجتمعات لفقدان الحرية في التفكير وفي التعبير.
يتبجّح مستبدّون كثيرون بإنجازاتهم التنموية، كما تنضم الى جوقتهم بعض الأصوات المثقفة، لكن لا يغيب عنهم حتماً أنّ أيّ إنجاز يُفضي إلى التقدّم يحتاج إدماج المجتمع في العملية، وهذا لا يتحقق إلّا بالديمقراطية، فلا تنمية فعلية من دون ديمقراطية.