التضحية بالمصالحة الفلسطينية
أوصل قرار السلطة الفلسطينية عودة التنسيق الأمني مع إسرائيل عملية المصالحة الداخلية مرة أخرى إلى طريق مسدود، بعد آمال عريضة وموجة تفاؤل واسعة بإمكانية إنهاء الانقسام وتطبيق تفاهمات المصالحة ووثائقها لمواجهة التحدّيات الثلاثة المطروحة أمام الفلسطينيين، والمتمثلة بصفقة القرن الأميركية وتداعياتها أو تجلياتها. وبالأحرى، عبر خطة الضمّ الإسرائيلية لثلث الضفة الغربية، والتطبيع/ التحالف الإماراتي الإسرائيلي، وتهافت دول عربية أخرى للالتحاق بالمسيرة التطبيعية، بغض النظر عن حلّ القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يرتضيه الفلسطينيون وفق المبادرة العربية للسلام التي لا تزال جامعة الدول العربية والدول الأعضاء فيها ملتزمة بها نظرياً.
وكانت المصالحة الفلسطينية قد تحولت، أصلاً، إلى عملية، وتناسبت عكسياً، طوال الوقت، مع عملية التسوية. وبما أن عودة السلطة إلى التنسيق الأمني تتضمن استعداداً صريحاً لاستئناف المفاوضات وعملية التسوية مع إسرائيل، فذلك يعني بالضرورة تجميد عملية المصالحة، ونظرياً وصولها إلى طريق مسدود، خصوصا بعد آمال عريضة، عقدت عليها في مرحلتها الأخيرة التي استمرت عاماً تقريباً. وعموماً يمكن الحديث عن ثلاث مراحل وفصول مهمة في عملية المصالحة:
الأولى، بدأت بتوقيع وثيقة مارس/ آذار في القاهرة 2005 وانتهت عملياً بالاقتتال والحرب الأهلية المصغرة صيف العام 2007 التي أفرزت الانقسام السياسي والجغرافي الحالي. وتضمنت تلك الوثيقة ثلاثة بنود أساسية: التهدئة مع الاحتلال والانتخابات التشريعية وكيفية إعادة بناء وإصلاح منظمة التحرير. وقد أنهت التهدئة عملياً الانتفاضة الثانية، وباتت، مع الوقت، شبه مفتوحة، خصوصا أن توقيع الوثيقة تزامن مع إعادة الانتشار الإسرائيلية في محيط غزة، علماً أن عدوان السور الواقي كان قد أنهى الانتفاضة عملياً قبل ذلك في الضفة الغربية. والانتخابات التشريعية كانت البند الوحيد الذي تم تنفيذه بعد عام تقريباً (يناير/ كانون الثاني 2006)، حيث سعى محمود عباس إلى تعزيز شرعيته وقيادته الجامعة، إثر رحيل الزعيم ياسر عرفات، وجرّ حركة حماس إلى المربع السياسي. وقد سعت الأخيرة إلى تكريس شرعيتها الشعبية ديمقراطياً ومؤسساتياً بعد حضورها القوي في الميدان في أثناء الانتفاضة، إلا أن عباس لم يتوقع الخسارة، و"حماس" لم تتوقع الفوز. وللأسف كانت مفاجأة النتائج وصدمتها من أسباب الاقتتال والانقسام فيما بعد. ودعا البند الثالث إلى تطوير منظمة التحرير وتفعيلها، والحفاظ على مكانتها إطارا وطنيا جامعا ومرجعية سياسية عليا للشعب الفلسطيني. وطوال هذه الفترة، جرت المطالبة بعقد لقاء الأمناء العامين للفصائل، للنظر في التطوير والتفعيل. ولتخيل عمق الأزمة، يمكن تذكر أن لقاء الأمناء العامين للفصائل بين بيروت ورام الله أوائل سبتمبر/ أيلول الماضي تأخر عن موعده 15 سنة تقريباً.
المصالحة الفلسطينية تحولت، أصلاً، إلى عملية، وتناسبت عكسياً، طوال الوقت، مع عملية التسوية
أنهى اقتتال حركتي فتح وحماس صيف 2007 المرحلة الأولى من عملية المصالحة التي عانت من جمود تام عامين، إلى أن تم استئناف الحوارات بينهما برعاية مصرية بعد حرب غزة 2009، والتوصل إلى وثيقة المصالحة في أكتوبر/ تشرين الأول 2009 التي وقعتها "فتح"، وتحفظت عليها "حماس"، وتحديداً قيادة الداخل، قبل أن يتم توقيعها في القاهرة مايو/ أيار 2011، في أجواء ثورة يناير، مع ملحق شكلي لم يغير شيئاً من جوهرها تقريباً.
كانت وثيقة أيار شاملة ووافية، وتعاطت مع أسباب الانقسام وتداعياته، مع تشكيل خمس لجان لمعالجتها، شملت الحكومة ومنظمة التحرير والانتخابات والأمن والمصالحة المجتمعية. واجتمعت اللجان فعلاً عدة مرات، ووضعت مسودات جدية كفيلة بإنهاء الانقسام، في حال تطبيقها عملياً. تعثرت العملية مع انشغال القاهرة بنفسها وأحداثها المتلاحقة بعد الثورة، فانتقل الأمر إلى الدوحة، حيث تم التوصل، وبرعاية قطرية، إلى إعلان الدوحة (فبراير/ شباط 2012) بين الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس في حينه، خالد مشعل، الذي نصّ على تشكيل حكومة كفاءات وطنية، برئاسة عباس نفسه، لإجراء الانتخابات وتنفيذ وثيقة أيار. وقد مثّل الإعلان آخر فرصة جدية للمصالحة، قائمة على الشراكة والندّية. وانتهت المرحلة الثانية القصيرة برمتها نظرياً مع فشل إعلان الدوحة، إثر رفض قيادة "حماس" في الداخل علناً له، وعملياً مع الانقلاب في مصر صيف 2013.
الاقتتال والحرب الأهلية المصغرة صيف العام 2007 أفرزا الانقسام السياسي والجغرافي الحالي
وبالعودة إلى الوراء، يمكن القول إن إعلان مخيم الشاطئ في قطاع غزة، في إبريل/ نيسان 2014، والذي أدّى إلى تشكيل حكومة رامي الحمد الله الأولى، بوصفها حكومة توافقية، كان تعبيرا عن الجمود أكثر منه خطوةً باتجاه الحلّ، ولم يؤسّس لمرحلة جديدة في عملية المصالحة. وأفضل ما فيه ربما أنه أقرّ، ولو على استحياء، بعدم الحاجة إلى وسيط وراع عربي أو إقليمي لعملية المصالحة. تجمدت عملية المصالحة سنوات إلى أن استأنف النظام المصري، لأسباب فئوية ضيّقة خاصة به، وساطته صيف 2017، عبر استضافة حوار بين حركتي فتح وحماس، وتم التوصل إلى وثيقة فرعية لإنهاء الانقسام في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، أخذت عنوان التمكين بدل الشراكة، وكانت مرحلة قصيرة جداً أيضاً، على الرغم من الآمال أو بالأحرى الأوهام التي صاحبتها، وانتهت عملياً مع محاولة اغتيال رئيس الوزراء رامي الحمد الله في مارس/ آذار 2018. ثم توقفت العملية سنتين تقريباً، واستؤنفت مرحلتها الأخيرة بداية العام الجاري، بشكل ثنائي بين حركتي حماس وفتح، ثم جماعيا بين الفصائل، مع الإعلان عن صفقة القرن الأميركية وخطة الضمّ الإسرائيلية والتطبيع - التحالف الإماراتي الإسرائيلي، وواكبتها، هذه المرة أيضاً، آمال عريضة، خصوصا مع طابعها الفلسطيني البحت، وتعزيز حقيقة نهاية الوساطة أو الرعاية العربية أو الإقليمية للمصالحة.
ازدادت الآمال، خلال المرحلة، مع الاستعداد لبلورة خيارات وطنية، بعيداً عن "أوسلو" والاتفاقيات المنبثقة عنه، التي تم التحلل منها، خصوصا مع عقد لقاء بيروت - رام الله للأمناء العامين، بعدما تأخر سنوات، ثم لقاء القنصلية الفلسطينية في إسطنبول بين حركتي فتح وحماس، والذي خرج بتفاهم لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني بشكل متتالٍ، ولكن ضمن سقف زمني محدّد، مع استمرار اللقاءات الثنائية والجماعية، بما في ذلك عقد لقاء آخر للفصائل، للإعلان رسمياً عن الانتخابات والتفاهمات الخاصة بنقاط الخلاف الأخرى. وللأسف، انتهت المرحلة سريعاً، ليس في أعوام، بل في شهور قليلة مع سقوط دونالد ترامب وفوز الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية أوائل الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وعودة السلطة إلى التنسيق الأمني. وفي السياق، الاستعداد لاستئناف عملية التسوية والمفاوضات مع إسرائيل.
تمت التضحية مرة أخرى بالمصالحة، من أجل مراهنة فاشلة على تسويةٍ لا تملك أساساً أي فرصة للنجاح
قال القيادي الفتحاوي، عزام الأحمد، قبل أيام، إن صفقة القرن الأميركية باتت وراءنا. وهذا قد يكون صحيحا نظرياً، لكن تداعياته وتجلياته مستمرة، كون خطة الضمّ الإسرائيلية مستمرة بخطوات استيطانية صغيرة ومتتالية، والتطبيع - التحالف الإماراتي الإسرائيلي مستمر، والمسيرة التطبيعية العربية الإسرائيلية ستستمر أيضاً، بحجة مواجهة الخطر الإيراني، خصوصا بعد اللقاء شبه العلني بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في نيوم أخيرا. ولا يقل عن ذلك أهميةً أن السفارة الأميركية ستبقى في القدس، وأن بايدن سيعيد دعم السلطة سياسياً ومالياً، من دون العمل الجدّي والمثابر لاستئناف عملية التسوية، أقله في السنة الأولى لولايته وحتى لو حصل، فلا فرصة أو احتمالا جدّيا لإنجاحها.
للأسف، تمت التضحية مرة أخرى بالمصالحة، من أجل مراهنة فاشلة على تسويةٍ لا تملك أساساً أي فرصة للنجاح، فما عجز عنه الديمقراطيان، بيل كلينتون وباراك أوباما، لن يحققه التقليدي الصهيوني بايدن. والأسوأ أن المصالحة تعرّضت لضربة قاسية قد تكون قاصمة، وعندما يستمر الانقسام أربع سنوات أخرى، ويدخل عقده الثالث، ستنجم عن ذلك مخاطر جدّية باتجاه تأبيده. وفلسطينياً، قد لا نكون أمام النموذج التقسيمي الباكستاني، ولا الكوري، وإنما نموذج مختلف غير مسبوق لكيانين منفصلين، يتنفسان بصعوبة من أنبوب الاحتلال الإسرائيلي، الخاضعين له على معظم المستويات، وإنْ بدرجات مختلفة.