التخلف والفوضى أداتا إخضاع للشعوب
ثمَّة مفارقة تجدها في بعض الدول العربية، وفي كثير من دول العالم الثالث، أن قياداتها ونخبها تنتمي إلى الغرب قيميّاً وثقافياً وتعليمياً وخبراتياً، ومع ذلك لا ترى أثر أيٍّ من ذلك في اقتصاداتها وأنظمة حكمها وإدارتها، إذ تهيمن عليها الفوضى وسوء التدبير والقمع، ويستشري فيها الفساد والاسترزاق والمحسوبية. وغالباً ما تحاول تلك القيادات والنخب، والأجهزة التي من خلالها يحكمون سيطرتهم، تحميل الشعوب مسؤولية التخلف وسوء الحال، والنكوص عن درب أممٍ أخرى في التقدّم والازدهار والرقيِّ والمدنية والحضارة. وهو اتهامٌ باطل، ينطوي على درجة عالية من النزق، إن لم تكن نبرة الاستعلاء الاستشراقي، غير أن الأمر قد يكون أعمق من ذلك بكثير، وله أبعاد ومرام أخرى، تتعلق بضمان بقاء هيمنة فئاتٍ معينة، مقابل سحق شعوبهم، بل وقد يصل الأمر إلى نزع الإنسانية عنها.
قبل عقدين تقريباً، سأل صحافي أميركي شهير في لقاء تلفزيوني مع زعيم عربي، متعلّم في الغرب ولا يخفي انبهاره به وبمنظومة قيمه، عن سبب غياب الديمقراطية في بلاده، وتبنّيه نظام حكم فردي استبدادي لا يعترف بالحريات ولا يقيم وزناً لحقوق الإنسان، رغم مبالغته في محاولة إبراز تَغَرُّبِهِ الثقافي والسياسي؟ كانت المفاجأة في جواب ذلك الزعيم أن شعبه غير جاهز بعد ليشارك في الحكم، وأنه يعمل ضمن خطة تدريجية للارتقاء بمستواه ليكون، (والعبارات التالية من عندي)، استدلالاً، مستحقاً كرامته وإنسانيته! قبل ذلك أو بعده، برّر زعيم عربي آخر، في لقاء مع صحيفة أميركية، رفض نظامه عقد انتخابات تشريعية نزيهة بأن ذلك سيعني سيطرة الإخوان المسلمين عليها! بمعنى آخر، وفي الحالتين، الشعوب العربية، حسب منطق ذَيْنِكَ الزعيمين، لم تنضج بعد، بما فيه الكفاية كي تكون قادرة ومؤهلة على مجاراة شعوب أخرى حقّقت ذاتها، وقدّمت تجارب ناجحة يمكن الاقتداء بها.
ما يعني الغرب، عموماً وجود وكلاء يخلصون لأجندته ومصالحه وهيمنته
بطبيعة الحال، ليس المثالان السابقان حكراً على دولتين عربيتين أو عالم ثالثيتين، بقدر ما أنهما قابلان للتعميم. والحقيقة الأخرى التي ينبغي التنبّه إليها هنا أن الغرب ليس مخدوعاً بنماذج من مثل تلك الزعامات والنخب التي تحاول جاهدة إبراز تماهيها معه، وعلى كل المستويات، ما خلا في ترسيخ الديمقراطية والحوكمة الرشيدة. ما يعني الغرب، عموماً، بشقّه السياسي الإمبريالي، وجود وكلاء يخلصون لأجندته ومصالحه وهيمنته، في الوقت الذي يوبخهم فيه، على مستوى الخطاب الفارغ، لعدم تبنّيهم القيم الليبرالية في الحكم والإدارة الناجعة. بعبارة أخرى، الغرب على مستوى مؤسسات الحكم فيه متواطئ وشريكٌ في الجريمة.
في سياق المفارقات التي استهلّ بها هذا المقال، تجد قادة ونخبا كثيرين حريصين كل الحرص على تغريب مجتمعاتهم على مستوى المنظومات القيمية والدينية والاجتماعية وتكسير تابوهاتها، في الوقت الذي يكونون فيه شديدي المحافظة والتقليدية في رفض إدخال تحديثاتٍ على البنى السياسية والاقتصادية والإدارية البالية والمتكلّسة. يريد هؤلاء أنظمةً تضمن هيمنتهم، في الوقت الذي "ترتقي" فيه شعوبهم اجتماعياً وثقافياً كي تكون جديرة بالعبودية لهم!
يستنزف غياب قوانين وإجراءات ناظمة لمناحي الحياة، أو عدم تفعيلها، الشعوب ووقتها
هنا، ثمَّة مسألة قد لا يعيرها كثيرون انتباهاً، فغياب النظام والفوضى المؤسّسية في كثير من مفاصل دول العالم الثالث مقصود لذاته. من ناحية، يُبقي على صورة نمطية سلبية وهمجية لتلك الشعوب في المخيال الغربي، بما يبرّر للأنظمة قمعها وفسادها ودوْسها على كرامتها وحرمانها من حقوقها. وفي هذا عودة إلى الزعم القائل إن شعوب العالم الثالث غير ناضجة بعد لتُعامل وكأنها سواسية مع غيرها من المجتمعات المتقدمة إنسانياً. ومن ناحية أخرى، يستنزف غياب قوانين وإجراءات ناظمة لمناحي الحياة، أو عدم تفعيلها، الشعوب ووقتها، في محاولة تدبر أمورها الحياتية وإنجاز معاملاتها، دع عنك إشغال الناس بعضهم بعضا، بحيث لا يجدون فسحة للتفكير في واقعهم الآسن. هكذا، تضمن أنظمة الحكم القمعية بقاء حاجة الناس إليها لتحميهم من أنفسهم، في حين لا يجدون طريقة لحماية أنفسهم منها.
باختصار، ما تراه في كثيرٍ من دول العالم الثالث، ومنها دول عربية، من ترهل إداري وبيروقراطية قاتلة وتفريغ للقوانين والإجراءات الناظمة لمسار الحياة من مضمونها يندرج في سياق مخطّط لإبقاء الشعوب تحت السيطرة ومحاولة تأبيد إخضاعها. الكارثة هي في تواطؤ الضحية في تكبيل نفسها في شباك جلادها.