التجديد الكبير أم الإحلال الكبير؟
تعلن جمهورية ألمانيا الاتحادية عن عزمها إحداث تعديلات أساسية في القوانين الناظمة لمسألتي الهجرة واللجوء لديها. ويسعى المشرّع الألماني إلى تخفيف صعوباتٍ كانت تقف حجر عثرة أمام إمكانية قدوم أعداد كبيرة من المهاجرين ومن اللاجئين الذين لديهم القدرة الذهنية والجسدية على تلبية احتياجات سوق العمل المتزايدة، وعلى تأمين حياة أكثر انصافاً لمتقاعدي البلاد من جهة ارتفاع معدلات الاقتطاعات الاجتماعية على رواتب العاملين لتغطية تكاليف صناديق التقاعد. وتقدّر الدولة، كما القطاع الخاص، حاجة سوق العمل إلى عدد أكثر من 400 ألف شخص سنوياً.
يحتمل هذا الموقف المتجدّد منذ أكثر من عقد التذكير أيضاً بأن ألمانيا سبق لها أن فتحت حدودها لأكثر من مليون لاجئ، غالبيتهم من السوريين، في أثناء وصول القتل والتدمير الواقع في سورية سنة 2015 إلى مستوى مرتفع. وبالتأكيد، وقبل أن ينقضّ صائدو الهنّات، وهم يتكاثرون هذه الأيام، يجب التنويه، أو تكرار التنويه، بأن فتح الأذرع الألمانية لهذه الأعداد الكبيرة من القادمين من دول الجنوب لم يتأتّ عن موقف أخلاقي أشارت إليه المستشارة حينها أنجيلا ميركل، مُحيلة الأمر إلى تربيتها في بيت قسّ بروتستانتي فحسب، بل هو مرتبطٌ باحتياجات اقتصادية واضحة صارت اليوم أكثر تقنيناً وظهوراً. ولقد تمخّضت هذه السياسة العامة المتبنّاة من الدولة الألمانية عن اعتماد مفاهيم متقدّمة للغاية، بخصوص مسألة اندماج المهاجرين في المجتمع المضيف. حيث أكّدت ميركل في قمة ميونيخ للأمن والتعاون سنة 2016 أن "الاندماج مرتبط أساساً بسوق العمل". وبالتالي، صارت السياسات العامة المتعلّقة بملف الهجرة مرتبطة عملياً بتأثير هذه الهجرة في قطاع العمل، وكما في قطاع المبادرات الفردية في الأعمال، مبتعدة بخطوات صارمة وكبيرة عن زاوية اعتبار الهجرة مشكلة تحتاج إلى حلول، أو عائقاً ثقافياً مرتبطاً بمسائل الاندماج في المجتمع المضيف.
قوانين الهجرة في فرنسا من أكثر القوانين تجديداً وتشديداً عبر السنوات
حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لم تكن ألمانيا دولة هجرة، وكان الخطاب السياسي السائد يعتبر أن الموجودين من المهاجرين ما هم إلا "عمّال مدعوون". وفي بداية الألفية الثالثة، ومع بروز مسألة شيخوخة المجتمع المحلي المتصاعدة، تغيّر الخطاب جذرياً ذات اليمين وذات اليسار لدى الأحزاب التقليدية غير المتطرّفة باتجاه انفتاح عقلاني على الملف الذي ما زال يُدار بحسابات انتخابية قصيرة النظر في دول أوروبية أخرى، وفي مقدمتها فرنسا التي، على الرغم من احتدام الأزمات الاقتصادية الناجمة عن تقاطع ضعف الإنتاج المحلي إبّان جائحة كورونا مع الحرب الروسية على أوكرانيا، وتفاقم الخوف (الشعبي والحكومي) البيئي المترافق مع ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة وما ينجم عنه من جفاف وحرائق، وعلى الرغم من ارتفاع التضخّم في أسعار المواد الغذائية ليصل إلى نسبة تفوق الـ 15%، وعلى الرغم من الاحتجاجات النقابية والشعبية ضد قانون إصلاح النظام التقاعدي، وعلى الرغم من ارتفاع معدّل الجريمة وسقوط ضحايا يومياً نتيجة تصفية الحسابات بين عصابات المخدرات في جنوب البلاد، يجد الجسم السياسي الحاكم والمعارض يميناً وفي أقصى اليمين، أن الهم الأول مسألة الهجرة، ساعياً إلى تقديم اقتراحات جديدة لتعديل القوانين الناظمة لها ولتصبح أكثر تشدّداً. وفي تجاوز لعنف الملاحظات الصادرة عن اليمين المتطرّف، سجّل زعيم اليمين الجمهوري الذي يُفترض به الاعتدال مزيداً من التشدّد، مصرّحاً بأن الهجرة "تشكل تهديداً أساسياً لبلدنا". مضيفاً أن على الدولة أن تتبنّى "خطوات قطع مع السياسات السابقة، وأن تقضي على سيل الهجرة".
يحتاج سوق العمل في ألمانيا إلى عدد أكثر من 400 ألف شخص سنوياً
وتجدر الإشارة إلى أن قوانين الهجرة في فرنسا من أكثر القوانين تجديداً وتشديداً عبر السنوات. ويكاد لا تمرّ على فرنسا حكومة من اليسار الاشتراكي أو من اليمين الجمهوري إلا ويجري تقديم تعديلات جديدة على هذه النصوص. ويجمع الخبراء القانونيون على أن لا حاجة تُذكر لسنِّ قوانين جديدة، وإنما هي حجّة مستدامة لكل عجز حكومي في السياسات العامة، وفي حل الأزمات البنيوية في المؤسسات الوطنية. واستوعبت مارين لوبين، الزعيمة الفعلية لحزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، والتي اشتهر تيارها منذ تأسيسه بالتركيز على ملف الهجرة والترهيب من "الإحلال الكبير" والعداء للأجانب، بأنه صار من غير المفيد انتخابياً الاستمرار في تكرار هذه اللازمة والتركيز عليها، وبأن من الأجدى شعبياً الاهتمام بمسألة التضخم وانخفاض القوة الشرائية. في حين، وبعد إقرار قانون إصلاح نظام التقاعد، تتحضّر الحكومة الفرنسية لطرح قانون جديد لتنظيم الهجرة على النقاش أمام البرلمان الذي سيشهد حتماً نقاشاتٍ عنيفة ستضم في جنباتها مزايدات يمينية ورفضٌ يساري وإشغالٌ عن الهموم الحقيقية شديدة اللهجة.
في حين تساهم الحكومة الفرنسية الحالية، من حيث تدري ومن حيث لا تدري، بتمهيد الطريق لوصول اليمين المتطرّف إلى سدّة الحكم في الانتخابات المقبلة، يُشدّد فرانسوا هيران، أستاذ كرسي الديموغرافيا في المؤسسة العلمية الفرنسية الأرقى، الكوليج دو فرانس. وفي كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان "الهجرة: الإنكار العظيم"، بأن المستقبل ليس مهدّداً بـ "الإحلال الكبير" كما يدّعي بعضهم من اليمين، بل هو منفتحٌ، وكما فهم الألمان تماماً، على "التجديد الكبير" في المجتمع وفي الأجيال وفي الإنتاج.