البحث عن إيران صديقة
أصاب سعود الفيصل عندما قال، قبل 19 عاما، إن ضمانات الأمن في الخليج العربي يمنٌ مزدهرٌ وعراقٌ مستقرٌّ وإيرانٌ صديقة. وكان استراتيجياً أمام سامعيه في مؤتمرٍ في المنامة، لمّا شدّد على ضرورة تفكيرٍ جديدٍ يسود المنطقة، أهم ما فيه إشراك اليمن والعراق وإيران في أي صيغٍ مستقبليةٍ للتعاون ... ومن يُحملق في البيان السعودي الصيني الإيراني، الصادر يوم الجمعة الماضي في بكين (أو بيجين؟) يراه مخصوصا، في اقتضابِه، بإعادة علاقاتٍ دبلوماسيةٍ موقوفةٍ منذ سبع سنوات، وتفعيل اتفاقياتٍ بينهما. وعلى الأهمية الوفيرة في هذا، جاءت محمولةً على انتظاراتٍ كبرى، الجملةُ عن توصّل المملكة والجمهورية الإسلامية إلى اتفاقٍ يتضمّن "تأكيدَهما على احترام الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية". ولا يحتاجُ واحدُنا إلى دماغ أينشتاين ليخمّن الدول التي يُطالَب هنا بعدم التدخّل في شؤونها.
ولمّا كان اللذان وقّعا الاتفاق، بعد خمسة أيام من محادثاتٍ في بكين، مسؤوليْن أمنيين رفيعيْن، فذلك لأن الإشكال الكبير بين بلديهما في عمقِه أمني، فإذا أنكرت طهران ما اتهمتها به واشنطن عن تدبيرها مخطّط اغتيال السفير السعودي الأسبق في الولايات المتحدة، عادل الجبير، في 2011، فإنها لا تستطيع أن تُنكر إن أنصار الله (الحوثيين) ما كانوا ليضربوا منشأتين لتكرير النفط لـ"أرامكو" في الأراضي السعودية في 2019، من دون "إجازةٍ" إيرانية. وأرشيف التوتّرات الأمنية الحادّة بين البلدين (سيما بعد مقتل 257 حاجّا إيرانيا و85 شرطيا سعوديا في موسم الحج 1987) ثقيل. وثمّة وجاهةٌ في قول من يقول إن ضمان "سلامة الأراضي السعودية" مكسبٌ كبيرٌ تحقّقه الرياض من الاتفاق الذي توّجته ضيافة الحزب الشيوعي الصيني (وليس وزارة الخارجية!) بعد محادثات بغداد ومسقط، سيما أن ثرثرات ترامب عن دفاع الولايات المتحدة عن المملكة لم تكفّ الأيدي الحوثية، ولا أصابع الاستخبارات الإيرانية، عن مواقع سعودية، وسيما أن العقل السياسي الحاكم في الرياض وصل إلى أن الحاجة ملحّةٌ لأن تتوقّف أكلاف الإجهاد السعودي في اليمن، بشريا ومادّيا وسياسيا. وإذا صحّ ما قالته البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة، أمس، إن استئناف العلاقات السياسية مع الرياض سيسرّع التوصل إلى اتفاق إطلاق النار في اليمن، وإلى حواراتٍ يمنيةٍ وتشكيل حكومةٍ شاملةٍ، فإن في وُسع الرياض أن تعدّ هذا كله إذا تحقّق إنجازا كبيرا.
ولكن، ليست القضية، في جوهرها البعيد، سعوديةً إيرانية. إنها في منظورٍ متوطّنٍ في المطبخ السياسي الحاكم والنافذ في طهران، يرى دولا عربية ساحاتٍ وملاعب يلزم أن تنفذ إليها إيران، ما دامت سانحةُ الانكشاف العربي مُغرية، وفائض الديمقراطية التي صنعتها الولايات المتحدة في العراق أتاح إنتاج فاطميين وعصائب وزينبيين وإطارا تنسيقيا وحشدا شعبيا، وليس في وسع السعودية (فضلاً عن غيرها) ما تفعله بصدد هذه العناوين المذهبية الصرفة. وبإضافة ما هو أعرض من "الهلال الشيعي" الذي تحدّث عنه عبدالله الثاني في 2004، حيث غرائز مذهبية، في اليمن وغيرِه، تنشط في إيقاظِها أجهزةٌ إيرانية، وترتدي أثوابا سياسية، وتتلفّع بمظلومياتٍ، فيها بعض الحقّ والحقيقة (في البحرين مثلا)، فإنه لن يعود كافيا أن يقرّر حسن نصرالله اسم الرئيس اللبناني المطلوب، وأن يبعث إلى سورية من يُنقذون مراقد في القصير، قبل أن يحارب في معركة حياةِ أو موتٍ في البلد الجار. ومع كل الوجاهة العلمية في القول إن مفاعيل ثقافية وسياسية في المجتمعات العربية أنتجت تطرّف أبو مصعب الزرقاوي وتكفيرَه عامّة الشيعة، فيما اكتفى بن لادن بتكفير خاصّتهم، وأنتجت "داعش" وجبهة النصرة وأشباحا مماثلة، فإن الرايات المذهبية الشيعية التي علَت في غير بلدٍ عربي، بدفعٍ إيراني، كانت من أسباب تخليق هذه التمثيلات المتطرّفة ذات الواجهة السنّية. وإذا كان قول حسني مبارك في 2006 عن ولاء أغلب العرب الشيعة لإيران خطأ جسيما، إلا أن الردّ الإيراني الرسمي عليه كان كذبا مشهودا، أنه مجرّد "تأثير روحي" تستخدمه طهران "لتعزيز التفاهم والتقارب بين المجموعات الدينية والإثنية". يدلّ على ذلك الكذب النشاط الإيراني الراهن بتمثيلاتٍ مذهبيةٍ ظاهرةٍ في دمشق وحواليها.
كيف تصير إيران دولةً صديقة، كما اشتهاها سعود الفيصل، بدل حالها ترى بلادا عربية ساحاتٍ وملاعب؟ هذا هو السؤال لمناسبة اتفاق بكين، المحمود على كلّ حال.