الانتخابات العربية .. إلى الخلف در
في كل مرّة تجري فيها انتخابات برلمانية في بلد عربي، على قلتها، تتأكد لنا عبثية هذه التجربة حديثة العهد في بلادٍ ظلت تقارب هذه اللعبة، المستقرّة في الديمقراطيات الأوروبية، وأنها منتج غربي هجين، وغير ملائم لثقافة (وتراث وتقاليد) شعوب تتكل فقط على حكمة قادتها الملهمين، ولا تحتكم إلا للسيف والخيل، منذ زمن الصراع على الكلأ والماء وسبي النساء، ولم تعرف في تاريخيها، الوسيط والحديث، سوى أنظمة الاستبداد والإسكات، الأمر الذي تبدو معه الانتخابات، والحالة هذه، مجرّد عملية تكيّف إجباري مع ضرورات هذا العصر، إن لم نقل إنها حالة تماهٍ بالإكراه لتحسين الصورة الخارجية.
لا يحتاج المرء، في دفاعه عن قراءةٍ متطيّرة كهذه، إلى قرينةٍ قطعيةٍ أو دليل إثبات، لتعزيز مثل هذا الاستنتاج المفعم بالإحباط، ليس استناداً إلى سجلات عتيقة، بل إلى تجارب عيانيه حاضرة ملء الأسماع والأبصار، كان جديد تجلياتها بالأمس في لبنان والعراق، وقبل ذلك في مطارح عربية عديدة، مثل ليبيا واليمن وسورية والسودان وفلسطين وتونس وغيرها من بلاد العرب العاربة، حيث تجرى الانتخابات وفق قوانين تلائم مصالح الطبقات الحاكمة، وتحاكي أرقى ما في الانتخابات المعاصرة من قواعد تنافس ورقابة واقتراع، إلا أنها تظل قاصرة عن الوفاء بشروط هذه اللعبة المتقنة.
ولعل تجربة الانتخابات البرلمانية أخيرا في كل من العراق ولبنان، وهما البلدان العربيان الواقعان في قبضة المليشيات الإيرانية، وفّرت ما يزيد عن الحاجة لإبداء مشاعر اليأس والنفور والإحباط، جرّاء ما تفيض به هذه التجربة الماجنة، من وقائع ومعطياتٍ لا حصر لها، تنطوي في البلدين المنهارين، على عبث انتخابي ضارب الأطناب، يؤدّي، في ما يؤدّي إليه، من نتائج سلبية، إلى تسريع وتيرة التحلّل السياسي في البلدين القائمين على الورق، حيث السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واقعة، بالجملة والمفرّق، تحت سلطة السلاح المطلقة، القادرة على إملاء نفسها على جميع الفرقاء (في لبنان يسمّون الأفرقاء) ربحت الأغلبية أو خسرتها النتيجة سيان.
أكثر من ذلك، فإن الانتخابات في العراق، سيما التي جرت في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي، وفي لبنان الذي كان يعرف عملية تداول السلطة إلى أن وقع بيد حزب السلاح، ظلت هذه اللعبة الديمقراطية تحتفظ، من حيث الشكل، بالمعايير المعمول بها دولياً، إلا أن نتائجها بقيت رهينةً بيد قوى ومرجعيات تعمل من خلف الستار، أو قل محكومة بإمرة سطوتين قاهرتين، لهما القول الفصل في شؤون البلاد والعباد، أولهما سطوة المليشيات المدجّجة بالمزاعم والصواريخ، وثانيهما سطوة المحاصصة الطائفية التي بقيت تعمّق الاستعصاء وتفاقم حالة الانسداد، الأمر الذي حوّل الانتخابات في كلا البلدين المخطوفين، من فرصة سانحة لتزييت آلة الحكم إلى مشكلة مستحكمة أكثر من قبل.
لا يتوقف الأمر عند حدود عدمية نتائج الانتخابات العربية، كونها لا تقدّم أو تؤخر في ميزان القوى الداخلي الراجح لصالح من لديه السلاح، بل تتعدّاه إلى إشاعة أجواء مسمومة وبالغة الاحتقان، تبدأ عشية الانتخابات بالوعيد، وتتواصل بعدها بزخمٍ أكثر، جرّاء احتدام مناورات التكليف والتشكيل الحكومي، والتنازع على الحقائب والمناصب، في أجواء يسودها العنف الكلامي الجارح، والخطاب الاتهامي الفالت من عقاله، فضلاً عن استعراضات القوة الكامنة في الشارع وفي الخنادق، وما إلى ذلك من مظاهر تشدّ العصب الطائفي، تستنهض الحشود وتستنفر العصبيات الثاوية في المهاجع، وتضفي على المشهد الحضاري ما يشبه ظروف معركة وجود مصيرية فاصلة.
ومع أن أحداً من المثقفين الديمقراطيين المشتغلين بحرفة الكلمة لا يمكنه ترويج فكرة هجر الانتخابات بالمطلق، أو التنظير لمقاطعتها تحت أي مسوّغ، إلا أن تطبيقات هذه العملية القادرة وحدها على تجديد الشرعيات وتفعيل الرقابة على السلطات، ظلت مشوبةً بالتزوير أحياناً، وبعدم الشفافية في أغلب الأحيان، كما بقيت المحصلة النهائية لهذه العملية الديمقراطية نتائج غير ديمقراطية، وتسفر، في كل مرّة، عن تعقيدات جديدة، وتُحدِث استدارة إلى الخلف بالضرورة، وحدّث ولا حرج عن التعطيل والتربّص والمناكفات، على نحو ما جرى ويجري في العراق ولبنان، الأمر الذي يحمل على القول: لا تُحدثني، يا أخا العرب، عن لزوم ما لا يلزم من الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، عوضاً عن صندوق الرصاص، طالما أن الانتخابات في بلادنا باتت هي المشكلة بدلاً من أن تكون الحل.