الانتخابات الرئاسية في مصر تمديداً للسلطوية...

27 ديسمبر 2023

مركز اقتراع في القاهرة في أثناء الانتخابات الرئاسية (10/12/2023/Getty)

+ الخط -

أجريت الانتخابات الرئاسية المصرية، أخيرا، في سياقات أزماتٍ متعدّدة، على مستويين، محلي وإقليمي، وبعد عقد من الحكم، فشلت مراهنات النظام على إحداث تنميةٍ تحسّن أحوال المصريين، بل زادت حدّة الأزمات الاقتصادية. وسياسيا، ما زال طابع الحكم سلطويا، يعتمد الضبط السياسي منهجا، مُمارسا سيطرة محكمة، سلاحها القمع بقوانين استثنائية، ليس الضحايا، وحسب، آلاف السجناء، لأسبابٍ بينها الحقّ في التعبير، ولكن المجتمع، ككل، والذي أصبح أسير العجز، وهو يواجه أزماتٍ متشابكة. وخارجيا، تُواجه مصر تحدّيات تحاصرها، حرب أهلية جنوبا، صعوبة آفاق حلّ أزمة سدّ النهضة الوجودية، بالتفاوض، وفي الغرب صراع سياسي ليبي، حين أخذ في الهدوء نسبيا، اندلعت حرب وحشية على قطاع غزّة، تحمل تحدّيات مستجدّة، وأخرى رسمتها سياسات رسمية، وخطوط التماسّ مع العدو، الذي يريد فرض الهيمنة على شعوب المنطقة ككل، لكن هذه الملفّات، بما فيها من إخفاقات ومخاطر، تستخدم أداة دعاية لاستدامة الحكم، عبر التخويف من المستقبل.
تناقش هذه المطالعة، الانتخابات الرئاسية التي انتظمت أخيرا، من منظور أنها خطوة إجرائية، لتثبيت السلطوية، سبقتها مرحلة تحضير، أخذت من سمات السلطوية ملامحها، واستخدمت أدوات الحشد والتعبئة المركزية، عبر توظيف مؤسّسات رسمية، وأيضا بوصفها مشهدا أخيرا لتمديد آجال السلطوية، حيث سبقتها تكتيكات السيطرة على المجال العام، وتهيئة المناخ لاستمرار الحكم، أولا بتغييرات في الدستور، تلتها مناورات سياسية للاستيعاب، وإبعاد المنافسين المحتملين ومواصلة حصار القوى السياسية. وتتتبع المطالعة مراحل الترشّح، والتصويت، وتحلّلهما، وصولا إلى إعلان النتائج، التي لم تخل من لغو المحللين، ومدح المنافسين، ومطالبات إصلاحيين مستقبلا بلائحة مطالب في الولاية الجديدة.

الصورة
أعضاء الهيئة الوطنية للانتخابات في القاهرة يعلنون نتائج الانتخابات الرئاسية (18/12/2023 فرانس برس)

التعديل الدستوري 
قبل أشهر من انتهاء الفترة الأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي (2014 - 2018) شرعت بعض مؤسسات السلطة في طرح نوايا لتمديد بقاء نظام الحكم أطول فترة ممكنة، عبر تعديلات دستورية مقترحة، سوّقتها للرأي العام بشعاراتٍ شبيهة بما روّجه في عام 2014. وفعليا، وبعد عام، من بداية الفترة الرئاسية الثانية للسيسي (2018 - 2022) والمفترض أن تكون الأخيرة بموجب دستور 2014 شرع البرلمان في تقديم مواد تطيل أمد الحكم، وتمكّنه من سيطرة مدموغة بشرعية دستورية. وخلال استفتاء إبريل/ نيسان (2019)، مرّرت التعديلات بسلطة الأمر الواقع، ومزايا لبعض الفئات. وبموجبها تمت إطالة فترة الرئاسة من أربع سنوات إلى ستّ. وعبر مادة انتقالية مستحدثة، استطاع الرئيس الترشح لفترة ثالثة، وبإعلان فوزه بانتخابات ديسمبر/ كانون الأول 2023 سيكون صاحب أطول فترة حكم (2014 - 2030) بعد الرئيس حسني مبارك (1981-2011) والذي انتهى حكمه بثورة شعبية، أحدثت قطيعة مؤقّتة مع حكم دولة الضباط بعد يوليو/ تموز 1952.

توسيع مظلّة المؤيدين واستيعاب الإصلاحيين
لم يكن تعديل الوضع الدستوري كافيا لتمديد آجال الحكم، رغم ما تضمّنه من ميزات تبدو دعما للمشاركة والتمثيل، كتخصيص حصص للشباب والنساء والأقباط وذوي الاحتياجات في برلمان 2020، واستحداث مجلس الشيوخ لاستيعاب بعض النخب، بجانب وضعية خاصة لمؤسّسة الجيش بوصفها ضامنة "مدنية الدولة". وكان التعديل شرعنة دستورية لاستدامة الحكم. ولأجل ضمان استقراره ونفوذه اتبعت تكتيكات، على ثلاثة محاور أساسية. الأول، توسيع مظلّة المؤيدين واستيعابهم في أطر تنظيمية، شبابية وأهلية، في تكامل مع هيئات رسمية، تدير بعضها مؤسسات الدولة الصلبة. الثاني، احتواء الأصوات الإصلاحية، عبر وعود بمشاركة أوسع في كل الانتخابات، وتخفيف الحصار على المجال العام، بما يجعل التنافس ممكنا في حدود، لشغل مساحةٍ لا تنتقص من سيطرة السلطة، مع وعود بمشاركةٍ في الانتخابات البرلمانية ومجلس الشيوخ ضمن قوائم تعدها أجهزة الدولة، فكان الاستيعاب خيارا لتخفيف حدّة مواجهة محتملة. وثالثا: إزاحة كل من يمثلون بديلا للسلطة الحالية، وإجهاض محاولات تكوين جبهاتٍ سياسيةٍ معارضة، تطرح بديلا من داخل النظام أو خارجه.

ضمن إعادة تشكيل المشهد السياسي، أجريت انتخابات الشيوخ في أغسطس 2020 على مائتي مقعد بينما يعين مائة آخرون

إظهار النية لإصلاح سياسي ومراجعة السياسات الاقتصادية
وبعد أن استقرّ الوضع نسبيا للسلطة، في ولاية ثانية، وأزاحة من طرحوا أنفسهم بدائل (في انتخابات 2018) والتمديد لولاية ثالثة عبر التعديلات الدستورية، وتجاوز مظاهرات كبيرة نسبيا في 2019، بات الحديث عن انفراجة سياسية مكرّرا. وضمن تكتيك الاستيعاب، جرى إدماج بعض الشخصيات وممثلي أحزاب في قوائم انتخابية تشكلها أجهزة الدولة، كما جرى في مجلس النواب، بمشاركة 12 حزبا سياسيا في تحالف انتخابي. منها الشعب الجمهوري، الذي حصل على 50 مقعدا، ورشّح حازم عمر ممثلا له في انتخابات الرئاسة (عيّن في مجلس الشيوخ) وحزب الوفد الذي حاز 26 مقعدا، ورشّح عبد السند يمامة، وكان المجلس إجمالا منتجا لتفاهمات رأس المال مع السلطة، ولم تصل نسبة المشاركة إلى 30% في مرحلتي التصويت.
وضمن إعادة تشكيل المشهد السياسي، أجريت انتخابات الشيوخ في أغسطس/ آب 2020 على مائتي مقعد بينما يعين مائة آخرون، وكانت نسبة المشاركة 14% من إجمالي من لهم حقّ في التصويت، 63 مليونا، بل لم تتراجع وحسب نسب التصويت عن البرلمان، بل جاوزت الأصوات الباطلة 15% من المصوّتين، وحاز حزب مستقبل وطن الأغلبية (149 مقعدا) وتوزّعت على 11 حزبا مقاعد ضمن قائمة "من أجل مصر" أو بالتعيين، كما عين بعض الإعلاميين رؤساء تحرير صحف ومذيعين، لتعزيز الدعم الإعلامي، لتتسق النتائج مع مستهدفات تعديل دستوري، أراد استيعاب رجال اقتصاد وسياسة، يظهرون تنوعا سياسيا. كما يعزّز المجلس الدفع بما تريده السلطة من تشريعات ومواقف تنتج، ترسل إلى الرئيس ومجلس النواب، لكي تبدو عملية صياغة القرارات جماعية ومتوافق عليها.

محاصرة فرص تبلور بدائل
ولم ينفصل إظهار النية لإصلاح سياسي عن تحدّي طرح بعض الشخصيات المحسوبة على الدولة للترشّح في انتخابات 2018، وما بدا أن هناك إمكانية لتنافس على موقع رئاسة الجمهورية من أحمد شفيق وسامي عنان الذي برّر ترشّحه "بإنقاذ الدولة المصرية"، وهي المهمّة التي لعب فيها عبد الفتاح السيسي دورا أساسيا بداية من 2013، بوصفه منقذا وبطلا شعبيا حسب ما سوّق حينها، واكتسب شعبية بموجبها وشرعية أيضا بوصفه رجل دولة، تولّى مواقع مهمة.

الصورة
فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية المصرية في القاهرة (12/12/2023 الأناضول)

وكان شفيق وعنان، في 2018 يتمتعان بكتلٍ تؤيدهما، كرجال دولة أيضا، إضافة إلى احتمالية تأييدٍ بوصفهما، بديلا يمثل مخرجا لإشكالية انتقال السلطة، وقضى عنان نحو عامين بين السجن الحربي ومستشفى عسكري، بتهمة التزوير، وجذب شخصيات مستقلة لحملته، منهم الأكاديمي حازم حسني والمستشار هشام جنينة اللذان واجها السجن، في سعي النظام إلى تأميم كل مصادر القوة والنفوذ والسلطة، وقطع الطريق على منافسة من دولة حسني مبارك.
في المقابل، لم يحدُث تطوّر ملموس، بشأن وعود الإصلاح السياسي، والإفراج عن سجناء الرأي، إلا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، حيث دعا النظام، وربما في خطاب مستجدّ، إلى حوار وطني في أبريل/ نيسان 2022، كإعادة الوصل مع أحزاب معارضة ومجتمع السياسة بمفهوم أوسع، بما في ذلك مكوّنات كانت جزءا من تحالف 30 يونيو، الذي أراد النظام وجزء من الحركة السياسة إعادة الروح إليه، بعد مواجهاتٍ كان بعضها حادّا، أحدثت سجناء رأي من كل التيارات، قضى بعضهم فترات طويلة (بالإضافة إلى حوادث اعتداء كما جرى مع هشام جنينة وفريد زهران وجمال عيد وغيرهم). وتضمّن الحوار الذي بدا بعد عام تقريبا، من الدعوة إليه، نقاشا في قواعد التنافس، ومطالب الإفراج عن سجناء رأي، ومطالب رجال الأعمال، بالإضافة إلى إصلاحات في ملفات عدة.
وهدف النظام من الحوار إلى إحراز قبول ضروري وتفاهمات مع بعض القوى لتمديد الحكم، سواء بالعطايا أو تكرار التلويح بالقوّة. ومثل الحوار مناورة ناجحة، استبقت انتخابات الرئاسة، ومهّدت لها، واستوعب كتلا واسعة، كما حوّل الأنظار عن خيار البحث عن بدائل في انتخابات 2023 مقابل وعود بالإصلاح السياسي ومراجعة السياسات الاقتصادية، في الفترة الرئاسية (2024 - 2030)، وهو ما ناقشته نخبٌ بعناوين مختلفة، لكنها تتفق في المضمون، وقبل حتى تحديد موعد الانتخابات، سلمت بالأمر الواقع، وطرحت أسئلة ومطالب في مرحلة ما بعد الانتخابات، ناصحين أن تكون فترة أخيرة، تُختتم بخطواتٍ إصلاحية ضرورية وتاريخية!

بدا قبيل الانتخابات أن هناك تململا اجتماعيا وسياسيا، دلّت عليها مؤشّرات عدة، ولم يقتصر، على فئات شعبية

وعود بمشاركة أوسع للقطاع الخاص ورجال الأعمال
حاول النظام، أيضا، معالجة غضب فئات رأسمالية، قلّصت مشاركتها في سوق الاستثمارات، فطرح مخطّطات تخارج الدولة من بعض القطاعات، وتوسيع مشاركة رجال الأعمال في الاستثمارات الحكومية. ويسعى هؤلاء، رغم ولائهم لمضامين الثورة المضادّة، حتى وإن ادّعوا المعارضة أحيانا، إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب، وحمل برنامج الطروحات رسالة ترضية، وبجانب كونه جزءا من أزمة التمويل المتفاقمة.
وتزامنت الرسائل مع وعود بتمثيل سياسي مناسب، وتلبية مطالب طرحت في الحوار الوطني. وبذلك، حيّدت كتلا من إصلاحيين ورجال أعمال، ورموز للثورة المضادّة، من بقايا الحزب الوطني الديمقراطي (المنحل)، من فرص بناء تكتلات وجبهات سياسة مناوئة، ما قلص فرص طرح البدائل، كما محاولات سابقة (سامي عنان وأحمد شفيق) من داخل النظام، أو من خارجه عبر اتفاق القوى السياسة على مرشّح يمثلهم ويقدّمونه بديلا.
كل هذه الخطوات جعلت الانتخابات الرئاسية من دون منافسة حقيقية، واستكملت عملية انتقال السلطة، إجرائيا بالدفع بأربعة مرشّحين، لا يمثلون كتلا سياسة وازنة، وبعضهم لم تعرفه ساحة السياسة أصلا.

الانتخابات عملية إجرائية
بدا قبيل الانتخابات أن هناك تململا اجتماعيا وسياسيا، دلّت عليها مؤشّرات عدة، ولم يقتصر، على فئات شعبية، تتألم من الوضع الاقتصادي، لكن أصواتا نخبوية استشعرت الضيق والمخاطر من استمرار الحكم بصيغته الحالية، بما فيها من استبعاد، وتضييق على الحريات وتهديد لوجودها أيضا. ومن هذا المنطلق، حاول بعضهم طرح بديل من داخل النظام للتغير عبر الانتخابات. والشاهد على المحاولة تصريحات رئيس حزب الإصلاح والتنمية، أنور السادات، عن مرشّح محتمل، أظهره الباحث عماد جاد، حين تحدّث عن مرشح مدني يتمتع بثقة أجهزة الدولة، مشيرا إلى قائد عسكري سابق. لم يكتب للسيناريو الاكتمال، وربما فسر مختبرا لقياس ردود الأفعال، بجانب دعوة السادات إلى أن يصون الجيش، بموجب الدستور، النظام الديمقراطي، مذكّرا بدور المؤسّسة العسكرية في انتخابات 2012.

الصورة
ناخبة في القاهرة تضع إصبعها في الحبر للإدلاء بصوتها في الانتخابات الرئاسية (12/12/2023فرانس برس)

أما البديل من خارج الدولة، فكان النائب السابق، أحمد طنطاوي، الذي سبق وطرح مبادرات للإصلاح السياسي في 2020 ورفض تعديلات الدستور. وفي أبريل/ نيسان 2023 أعلن نيته التنافس، مرشّحا مدنيا، يهدف إلى تغيير آمن وسلمي يوقف مخاطر الانهيار أو انفلات قادم، لكن أسبابا عدّة منعت تكوّن جبهة مساندة له، رغم ما حازه من تأييد ملحوظ بين فئات متنوّعة، وسعي بطولي من مؤيديه ومواطنين عاديين لعمل توكيلات لترشحه. لكن مسوّغ الترشّح (25 ألف توكيل من 15 محافظة) لم يتحقق، وأعلنت حملته جمع 14 ألف توكيل، معظمهم من مصريين في الخارج، حيث كانت العراقيل أقل، كما مورست ضده تضييقات عدة، منها إغلاق باب الحصول على التوكيلات، كما احتجز عشرات خلال أنشطة حملته، واتهم 21 من الحملة بالتزوير ضمن قضية التوكيلات الشعبية التي عقدت المحكمة بخصوصها جلستين بعد انتهاء فترة التقدّم للترشّح لانتخابات الرئاسة. وهو ما كان مسوغا لمنظمات حقوقية، محلية ودولية، أن تقول إن أبواب الانتخابات مغلقة، وإن طنطاوي، الذي قبض على أفراد من عائلته فور إعلانه الترشّح، إبريل/ نيسان 2023 ثم طاول أعضاء حملته انتهاكات، بمثابة عقاب وانتقام من فكرة طرح بديل جاد للتنافس في انتخابات الرئاسة، ويتخذ من شعارات ثورة يناير منطلقا للدعاية.

النظام يختار مريديه
بإبعاد طنطاوي، اختار النظام عمليا منافسيه، في تكتيك متكرّر، جرى في 2014 و2018، وضمن الانتخابات أخيرا، أعلنت ثلاثة أحزاب المشاركة، بينهم مرشحان مؤيدان للنظام وجزء من جبهته السياسية، أستاذ القانون، عبد السند يمامة، مرشّح حزب الوفد، والذى لم يحظ بتأييد قيادات من حزبه بينهم نواب، وحازم عمر، مرشّح الحزب الجمهوري، عينه السيسي قبل عامين في مجلس الشيوخ، كأحد رجال الأعمال، وكان لافتا جمعه توكيلات جاوزت 68 ألفا (قال في حديث تليفزيوني إنه جمع 73 ألف توكيل في 72 ساعة) بجانب توكيلاتٍ من أعضاء الحزب في البرلمان، باستثناء نائبين.
أما المرشّح الثالث، رئيس الحزب الاجتماعي الديمقراطي، فريد زهران، وهو قيادي يساري سبعيني، قال في ترشّحه إنه بديل آمن وديمقراطي، وهي ذاتها عبارة تدشين طنطاوي حملته، لكن لم يحُز تأييدا مماثلا، بعض من أسبابه قرار الترشح المفاجئ، ومشاركة حزبه، ائتلاف انتخابي مع صفوف الموالاة، بينها "مستقبل وطن" الذي يعتبره بعضهم وريثا للحزب الوطني، ما حدّ من تحقيق هدفه أن يكون مرشّحا للقوى المدنية.

عبر تجارب وخبرات سابقة، في النظم السلطوية العربية، يكون التنافس بين المرشّحين قاصرا على المركز الثاني، فالفوز معروف مسبقا

جمع الناشر فريد زهران، المتهم الرابع في قضية انتفاضة الخبز 1977، توكيلات برلمانية من أحزاب ومستقلين (لم تعلن بالتحديد هويتهم) بينما انقسمت الحركة المدنية بشأن دعمه، بينما حاز طنطاوي، قبل أن يفقد فرص الترشّح، تأييد حزب الكرامة والتحالف الشعبي، بجانب كتلة من حزب الدستور، الذي أعلنت رئيسته، جميلة إسماعيل، الترشّح، كأول امرأة للمنصب ثم تراجعت، ليبقى فريد زهران الأقرب إلى المعارضة، لكنه لم يحظ بغير تأييد حزب العدل، وبعض شخصيات حزبية.
ومع إعلان المرشّحين الثلاثة، زهران ويمامة وحازم عمر، كانت النتيجة شبه معروفة مسبقا، بفوز الرئيس السيسي بولاية ثالثة. وعمليا، سينافس باقي المرشّحين مع الأصوات الباطلة، في تكرار لمشهد التصويت في انتخابات 2014 و2018، وفي تأكيد أن الانتخابات مشهد مكمّل لولاية جديدة، بعد سلسلة إجراءات سبقتها، حيث لا يمكن النظر اليها وتحليل تفاصيلها، من دون رؤية ما سبقها من أحداثٍ أمّمت الحياة السياسة، وحجبت من فرص تكون بدائل ومنافسين جادّين.

الحشد ضرورة
ما بين سمات النظم السلطوية وجود عملية سياسية شكلية، تسمح بنشاط مقيد للأحزاب والمجتمع المدني، تتحكّم السلطة في تفاعلاتها ومخرجاتها، بالضغوط بشكلٍ غالب، والتفاهمات أحيانا، حال مرّ النظام بأزماتٍ، وفيها تدار العملية السياسة، كما شؤون الدولة، عبر مؤسّسات رسمية وتنفيذية، وبالإسناد من أجهزة الدعاية التي تحاول تشكيل الرأي العام، يدرك الجمهور ذلك، فتقلّ نسب المشاركة السياسة عموما، ومنها المشاركة بالانتخابات، ليس وحسب لعدم وجود بدائل يمكن الاختيار بينها، ولكن أيضا من المؤيدين الذين يدرك أغلبهم أن المشاركة ليست ذات تأثير وفاعلية تثبت وجود النظام أو تهدّده، حيث تنوب عنهم مؤسّسات الضبط في إدارة المشهد السياسي.
وعبر تجارب وخبرات سابقة، في النظم السلطوية العربية، يكون التنافس بين المرشّحين قاصرا على المركز الثاني، فالفوز معروف مسبقا، وبنسبة غالبا تفوق 90% لمرشّح الدولة. ويمكن تأمل أغلب التجارب العربية، وباستثناءات قليلة، ساهمت فيها تحسينات الثورات العربية التي انقطعت مساراتها بالثورات المضادّة.

الصورة
يرقصون أمام مركز اقتراع للانتخابات الرئاسية المصرية في الجيزة (10/12/2023/الأناضول)

أدوات الحشد
في حالة مصر، كنظام سياسي مقيّد، وبنى حزبية هشّة، تتولى أجهزة الدولة الصلبة الدور الأكبر في إدارة عمليات الحشد والتعبئة، وتستخدم الوزرات وهيئات رسمية أدوات الدعاية والحشد، لتثبيت السلطة وترسيخها، وساهمت في الانتخابات أخيرا وزارات ومجالس قومية ومؤسّسات تعليمية ومهنية وإعلامية، في صنع مشهد الحشد والتأييد وإبراز حشود المصوتين، تأكيد أولا لمشاركة متّسعة دالة على أهمية الانتخابات بوصفها أداة لانتقال السلطة، وثانيا إظهار للقوة وفاعلية النظام وبقاء شعبيته مرتفعة، ثالثا الربط بين الحشود وطبيعة المخاطر المرتبطة بدول الجوار، والتحدّيات في ملفات متنوعة.
كما حازت الحشود اهتماما إعلاميا واسعا، جاء نتاج التعاون بين مؤسّسات الدولة، وأحزاب الموالاة، إضافة إلى دور ما يمكن تسميتها الكيانات الموازية التي كوّنتها السلطة، بديلا لمكوّنات المجتمع المدني، ومنها جمعيات ومؤسّسات وهيئات شبابية وتكوينات سياسية، تبدو مستقلة، لكنها تدار من مؤسّسات رسمية، أو أشخاص نافذين، يصدرون الأوامر، ويشكلون شبكة علاقات متصلة مركزيا، كما قيادة مشتركة في مسرح عمليات التصويت.
وبدا، مع صباح اليوم الأول للانتخابات، أن مصر تصطفّ في طوابير من حلايب وشلاتين، حتى السلوم، في أجواء تبدو احتفالية، تُستخدم فيها الرموز، فيشارك فيها المواطنون بزي تقليدي أحيانا، للقول إن التنوّع الجغرافي والثقافي يصب في الوقوف خلف الدولة التي يمثلها الحاكم، ويرمز له بالدولة المصرية. وسعت السلطة إلى حثّ نخب، بينهم الفنانون والرياضيون، لإظهار مشاركتهم، وتغطية ذلك إعلاميا، ربما كان هذا مسارا للسخرية أحيانا، صوّتت الفنانة لبلبة مرتين في الانتخابات، مرة في جدّة السعودية، وأخرى في إحدى لجان حي الدقي في الجيزة.

بنسب المشاركة المرتفعة، وعدد المصوتين (ما يزيد عن 44 مليونا) يمكن أن تدخل الانتخابات الرئاسية المصرية أخيرا موسوعة للأرقام القياسية

مسيرات يقودها رؤساء الجامعات
لم يكن التصويت كأفراد كافيا، تصدّرت قيادات إعلامية لمسيرات تشجيع المشاركة، بينهم قيادة لإحدى أعرق الصحف العربية، بينما كان يقود مسيرة مماثلة المغني الشعبي، حسن شاكوش، في حي العجوزة. وقاد رئيس جامعة سوهاج مسيرة قيل إنها ضمّت 20 ألفا من الأساتذة والعاملين والطلاب للتصويت، ولم يتخلّف رؤساء جامعات أخرى عن الاتصال وحشد أعضاء هيئة التدريس لتدشين مؤتمرات "المشاركة السياسية" وصولا إلى وقفات ومسيرات في الجامعات. وكانت شركة المتحدة للإعلام، التي تمتلك أغلب الصحف والقنوات، أداة توجيه وحشد، تكامل معها دور الهيئة الوطنية للإعلام في الضبط.
شمل الحشد كل مؤسّسة وهيئة تخضع لسلطة الدولة، وتضم عاملين في وزارات، ومجالس متخصّصة، وبعض النقابات، حشدت المجالس القومية، مستهدفة فئاتها، ومنها المجلس القومي للمرأة، والمجلس القومي للمعاقين وأيضا مجلس حقوق الإنسان، (الثلاثة مجالس ضمن هيئات صرّح لها بمتابعة الانتخابات) وغيرها من مجالس، شجّعت المشاركة، وحشدت لها، بينما أعلنت، في الوقت نفسه، مهام المتابعة ورصد الانتهاكات، عبر غرف مركزية.
هذا بجانب حشد العاملين في الوزارات بعض الموظفين منحوا إجازات، وبعضها شجّع جمهورا تقدّم له خدمات تمثل شبكة اتصال، بغرض التصويت، بين ذلك، تحرّكات برنامج تكافل وكرامة، الذي تنفذه وزارة التضامن بدعم من البنك الدولي، وبالصيغة ذاتها، حشد المستفيدين من مبادرة "حياة كريمة"، والتي تحوّلت إلى مؤسّسة، سمح لها بمتابعة الانتخابات رسميا.
ويمكن القول إنه بنسب المشاركة المرتفعة، وعدد المصوتين (ما يزيد عن 44 مليونا) يمكن أن تدخل الانتخابات الرئاسية المصرية أخيرا موسوعة للأرقام القياسية، وكانت مؤشّراتها محلّ احتفاء من مؤيدي السلطة، وحلّلتها مراكز أبحاث، كون نسبة المشاركة فيها الأعلى في تاريخ الانتخابات المصرية، نسبة وعددا، وتفوق، بالطبع، انتخابات ما بعد الثورة، والطوابير الممتدّة، بما فيها أول انتخابات تنافسية بين تياراتٍ مختلفة، فاز فيها مرشّح مصري لم يحقّق منجزات سابقيه عتبة 90% أو يقفون على عتبتها كما عهدنا.

المنظمات الأهلية وأعمال المتابعة
منذ مرحلة منح الموافقات على أعمال المتابعة، بدا أن هناك تحضيرا لمشاركة منظمات محلية بعينها دالّة عليها قائمة المنظمات المسموح لها بالمتابعة، والبالغ عددها 16 منظمة، بينهم خمس منظمات تأسّست في عامي 2022-2023، ومجملها تأسّست فيما بعد 2016، وليست ذات صلة بحقوق الإنسان أو دعم المشاركة المجتمعية، بينما منعت منظمات أخرى، كان بينها جمعية السادات، والذي أصدر بيانا يستغرب استبعاد مؤسّسته، وقصور المتابعة على المتعاونين مع الدولة.

حسب نتائج الانتخابات المعلنة رسميا، شارك ما يزيد عن 44 مليونا و700 ألف، بنسبة تمثل 66.8% من إجمالي المدعوين للتصويت

ومن أجل إضفاء طابع مستقل للمتابعة، إقليمي ودولي، كوّنت مجموعة من المنظمات المحلية، المعروف قربها من النظام، شبكة ضمّت أجانب في صفوفها، بجانب لجنة جامعة الدول العربية، والبرلمان العربي مثالين تم استقدامهما، وشهدت كل هذه المكونات بنزاهة الانتخابات، ونفي وجود خروقات، أو انحياز من مؤسّسات تنفيذية لمرشّح بعينه، حيث كانت مؤسّسات الدولة حيادية، لم تكن تصريحات هذه المنظمّات، والتي لم تنجز فعليا تقارير متابعة ذات بال، حتى على مستوى الشكل، أبعد من أعمال الدعاية، ودالّة على تدهور وتغيرات في بنية جمعيات ومؤسّسات أهلية، هي أقرب إلى مؤسّسات حكومية، مأمونة أعمالها، محلّ اتفاق مع السلطة، وأداة للدفاع عنها وتبرير الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان، داخليا أو في فاعليات دولية، أو أخرى ضمن كيانات موازية لسيطرةٍ على المجال العام عبر شغل مساحاتٍ تكمل سياسات الضبط السياسي. وحرصت وسائل الإعلام على تغطية مشاركة هذه الهيئات، تأكيد للنزاهة، لكن تحت مسمّى المتابعة لا المراقبة، بوصف المراقبة تمسّ السيادة الوطنية، كما أن السلطوية، التي تضبط وتراقب، لا يمكن أن يختصّ أحد بالرقابة عليها.

إعلان النتائج
حسب نتائج الانتخابات المعلنة رسميا، شارك ما يزيد عن 44 مليونا و700 ألف، بنسبة تمثل 66.8% من إجمالي المدعوين للتصويت، والبالغ عددهم 67 مليونا. وتزيد نسبة المشاركة هنا عن ضعف نسبة المشاركة بانتخابات النواب (حوالى 28%) وتمثل أربعة أضعاف نسبة المشاركة في مجلس الشيوخ (14%) وكلاهما في عام 2020. وبالنظر إلى ارتباطها بالاستفتاء على التعديلات الدستورية، فهي تفوقها أيضا، حيث شارك في استفتاء 2019 حسب الأرقام الرسمية، 27 مليونا، تمثل 44% من الناخبين، أيد 88% التعديلات، بينما الرافضون كانت نسبتهم حوالى 11%، وهي ذاتها النسبة التي حصل عليها المرشّحون الثلاثة في انتخابات الرئاسة أخيرا، بجانب الأصوات الباطلة، بينما حصل السيسي على 89,6% من الأصوات الصحيحة.
استكملت حملات الدعاية والاحتفاء، بعد إعلان النتائج، من بينها، تغني بالشعب، الذي عانى أزماتٍ متواترة طوال عقد، سببها ميراث ثقيل، وأسباب خارجية من توترات وأزمات، أضرّت بالاقتصاد المصري، لكن الشعب اختار تجديد الثقة في القيادة، هكذا اختتم مشهد تمديد آجال السلطوية، عبر الانتخابات.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".