الاستثناء الفرنسي
بعدما تقدّم منظّموها والداعون إليها بطلبٍ رسميٍّ إلى الجهات المعنية في الدولة، قرّر وزير الداخلية الفرنسي توجيه تعليماته المشدّدة إلى مسؤولي الشرطة في العاصمة باريس، لمنع قيام تظاهرة كانت مقرّرة لنصرة شعب فلسطين الذي يواجه أشدّ الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً وشراكةً مع الجماعات الفاشية من المستوطنين. وعلى العكس من أغلب العواصم والمدن الغربية التي سمحت بتنظيم تظاهرات تنديدٍ بالعدوان الإسرائيلي وتضامنٍ مع الشعب الفلسطيني، أرادت الحكومة الفرنسية، في غمرة تخبّطات سياسية شملت أكثر من مجال، أن تُثبت بأنها لا تجرؤ على تحمّل واجبها الأخلاقي والتاريخي الذي طالما ميّز عموماً السياسة الخارجية الفرنسية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. سياسة أسّس لها شارل ديغول، وتبعه فيها أغلب من تتالى على قصر الإليزيه، مع وجود وزراء خارجية شديدي التأثير والانفتاح على قضية شعبٍ احتلت ارضه، وتم تشريده بشراكة دولية، كما كلود شيسون (1920 ـ 2012) الذي رافق سنوات فرانسوا ميتران الأولى في الرئاسة.
وزير الداخلية الفرنسي الحالي، والمشهور بمواقفه القريبة جداً من اليمين المتطرّف، والذي استغل العمليات الإرهابية التي شهدتها فرنسا أخيراً لتعزيز الرهاب من الإسلام، وتنميط صورة المسلمين عموماً، وحلّ الجمعيات التي تدافع عن حقوقهم كما إغلاق بعض المساجد، برّر موقفه النادر في التاريخ السياسي الفرنسي الذي يعتبر التظاهر حقاً دستورياً بأنّ تجمعاً كهذا يُخشى منه أن يستورد صراعاً في منطقة الشرق الأوسط إلى داخل فرنسا، فيقع تصادم بين ذوي الأصول العربية والمسلمة من جهة وأبناء الطائفة اليهودية من الفرنسيين من جهة أخرى. وقد أشار إلى سابقة حدثت سنة 2014، إذ وقعت صداماتٌ متوسطة الأهمية إثر تظاهراتٍ تلت عدواناً إسرائيلياً أيضاً على الفلسطينيين. وقد سارعت أحزاب اليسار إلى التنديد بهذا الموقف المنحاز بوقاحةٍ إلى المعتدي، خصوصاً بعدما ندّد الرئيس الفرنسي بإطلاق الصواريخ من غزة على التجمعات الإسرائيلية، في اليوم الذي أعقب تصريح وزير داخليته، معزّياً بمن وقع ضحيةً لها من الإسرائيليين، ومتناسياً العدد الكبير للضحايا الفلسطينيين والدمار الهائل الذي خلّفته الغارات المستمرّة في المدن الفلسطينية.
برّر وزير الداخلية الفرنسية رفضه المظاهرة في باريس تضامنا مع فلسطين من خشيته من أن يستورد صراعاً في منطقة الشرق الأوسط إلى داخل فرنسا
في وسائل الإعلام الفرنسية، وعدا استثناءات نادرة، يبدو أنّ الخطاب المسيطر يميل، بشدة وبوضوح، إلى الجلاد، ويتناسى الضحية، بل ويحتقرها. فمن تمييع الحقيقة بذكر عدد شامل لضحايا المواجهات، من دون تمييز بين مائة فلسطيني وستة إسرائيليين، فيرسخ في ذهن المتلقي أنّ ضحايا الصراع من الطرفين هم 106 في الإجمالي، من دون الوقوف عند الفارق الهائل. كما التركيز على طفل، على الرغم من الألم الإنساني الطبيعي لسقوطه ضحية، من الجانب الإسرائيلي، في مقابل الصمت عن عشرات الضحايا من الأطفال الفلسطينيين، وهذا أسلوب آخر للتمييز العنصري تجاه الضحايا. كما أنّ للطفل الإسرائيلي اسماً وسردية إنسانية مؤثّرة، في حين أنّ أطفال فلسطين لا أسماء لهم، ولا يعدون أن يكونوا أرقاماً.
وبما أنّ غالب الإعلام المرئي صار يميل تطرّفاً نحو اليمين، ومن المتعارف عليه تاريخياً معاداة هذا الاتجاه السياسي للسامية، فقد تحوّل هذا الإعلام، من ضمن سياسة تجميل التطرّف اليميني القائمة على قدم وساق قبيل الانتخابات الرئاسية المنتظرة سنة 2022، وبتخاذل مفضوح من الحزب الحاكم، الساعي أيضاً إلى مغازلة السياسة الإسرائيلية تحسّباً، لدعم السردية الصهيونية تكسباً وتقرّباً وسعياً إلى رفع صفةٍ لازمته عقوداً منذ انخراط مؤسّسيه في الانحياز للمحتل النازي، خلال أربعينيات القرن الماضي لفرنسا وملاحقة يهودها. حقبة تاريخية لم يكن فيها غالب المجتمع الفرنسي، عدا قوى اليسار، معادياً للاحتلال، وكان واضحاً تعاون جزءٍ مهم من هذا المجتمع معه على الأقل، في ما يخص ملاحقة اليهود. ولربما هناك شعور بالذنب طاغٍ لدى بعض النخب الفرنسية، ما يؤدّي بها إلى إغماض العين وقطع اللسان، عندما ينتهك الإسرائيليون حقوق الفلسطينيين.
السياسات العامة المنحرفة سلباً في المطلق ستؤدي إلى نتائج مسمومة لمستقبل التعايش
في حين تسعى الحكومة الفرنسية إلى الاستمرار في سنّ القوانين التي تخص ما تسميه الانفصالية عن مبادئ الجمهورية، وفي ما يتعلق بتعزيز العلمانية على الطريقة الفرنسية، وهي المتشدّدة أساساً، مقارنة ببقية الممارسات والالتزامات العلمانية في الغرب. وفي حين يتبارى السياسيون الذين يتحضرون للانتخابات في مغازلةٍ شعبويةٍ ركيكة لمشاعر تركّز على الخوف والتخويف من الهجرة ومن الإسلام. وفي حين يدّعي عقلاء الدولة أنّهم يسعون واهمين إلى نبذ الأسباب المحرّضة على التمايز والتمييز الناجمين عن إقصاء جيل كامل من أبناء الضواحي، نتيجة سياسات اقتصادية وتعليمية وثقافية مبتورة أو عاجزة، يبدو أن الموقف الرسمي المتشدّد في دعم السياسات الإسرائيلية سيُفضي إلى تأجيج الشعور بالإقصاء وبالتمييز لدى فئاتٍ كبيرةٍ من شباب الضواحي، ويدفع بهم إلى التمثّل بشباب الانتفاضة، تضامنا وإعادة إنتاج لنموذج احتجاجي مؤثر. وبهذا، فإنّ السياسات العامة المنحرفة سلباً في المطلق ستؤدي إلى نتائج مسمومة لمستقبل التعايش والانسجام في المجتمع الفرنسي.
لم يتمكّن وزير الداخلية من منع التظاهر تضامناً مع شعبٍ محتل، بل على العكسِ، ففي سعيه المُدّعى لتفادي الصدامات، يساهم في تأجيج الجانب العنيف من كلّ حراكٍ تضامني، متحمّلاً مسؤولية تاريخية وأخلاقية لا لبس فيها.