الاستثناء السوري وثمن بقاء الكرسي المقدّس

28 يونيو 2023
+ الخط -

أثبت التاريخ، بانعطافاته وانعراجاته المتعدّدة، أنّ الحكومات الغربية سريعة في تخليها عن أصدقائها المستبدّين عندما تقتضي المصلحة، فمن كان يتصوّر أنّ نظام حسني مبارك الذي استمرّ 30 عاماً سيسقط في 18 يوماً فقط؟ ومن كان يظنّ أنّ قذافي ليبيا سيُعثر عليه مختبئاً في جحرٍ بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة ضده؟ بالمطلق هذا هو مصير الطاغية الذي يصنع عبيداً، ولا يصنع أحراراً يستميتون لحمايته يوم لا تبكيه الشوارع ولا تندبه العشيرة. في المقابل، سمحت القوى العالمية المتلوّنة بـ"الاستثناء" السوري، وفضّلت إبقاء بشّار الأسد على خيار الحكومات المنتخبة المتخمة بالتهديدات المحتملة، فكانت أكثر تردّداً وأقلّ يقيناً تجاه انتفاضة السوريين، وراحت تتوخّى "الوسطية" وتسوّق ردوداً "انتقائية" لا تعرف كيفية المواءمة بين دعمها طاغية دمشق والإدراك الضمني بأنّ أيام الديكتاتور معدودة. واليوم تبدو عصا العقوبات الأحادية ليست قوية بما يكفي لإجبار الأسد على قبول تسويةٍ حقيقيّة، ومع عدم وجود جزرات معروضة، فإنّ الأخير يختار العقوبات على الحلّ السياسي بالتزامن مع التطبيع العربي الذي يبدو غير قيمي وغير منطقي، كونه يتنافى مع الأخلاق السياسية القاضية بعزل نظامٍ مجرمٍ يغرق في أزمته جرّاء سياساته الحمقاء، بينما يؤكّد أنّ العرب اقتنعوا أخيراً بأحقّية موقفه المشوّه من الثورة السورية وروايته عنها! ولا شك ثمّة فرق شاسع بين أن يكون الانفتاح العربي على سورية أو يكون محصوراً بالأسد فقط، الفارق سيكون على مستوى الأهداف والأدوات جلياً، وذلك كله يتمّ بمباركةٍ "ضمنية" من الغرب، والتي تعبّر، في جوهرها، عن الخدمات الجليلة التي يقّدّمها الأسد، وإنْ بصورة أخطبوطية، إذ تتراوح سياسته الزئبقية بين "الممانعة" و"البراغماتية"، حتى بات رمزاً طوطمياً في معادلة الصراع السوري، يتشبّث بالسلطة بوحشيةٍ مريبةٍ تجعله مرادفاً لأكثر التنظيمات الإرهابية تطرّفاً وعنفاً.

التماهي مع فكرة بقاء النظام السوري، رغم كلّ الكوارث التي أدّى إليها تمسّكه بالحكم تحت شعار "الأسد أو نحرق البلد" بدا في بداية طرحه سوريالياً، ثم اتضح، بمرور السنوات، أنه كان السياسة الوحيدة التي أنقذته من حمام الدم السوري الكبير. وثمّة حقيقة جلية هنا، أنّ نظام الأسد ما زال يمارس دور الأداة الطوعية بيد "السيستم العالمي"، ولم يكن خيار إسقاطه ولا مرّة واحدة على طاولة الدول الكبرى. بالتالي، فإنه سيبقى ما دام يؤدي الدور الوظيفي بالقضاء على دور سورية الجيوسياسي في صفقةٍ غير معلنة بين الأسد والنظام العالمي، مفادها "الحكم مقابل سورية منزوعة الصفات الإقليمية والعربية والاستراتيجية". ولعلّ ورقة الكيميائي خير دليل على أكبر المساومات في تاريخ سورية، حين هندست الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما صفقة البقاء مقابل تسليم الترسانة الكيميائية. ومن يعرف تركيبة النظام السوري المعقّدة يعلم أنه قادر على الاستمرار على هذه الشاكلة عقوداً طويلة بغياب تحالف دولي لتغييره، تماماً كما كان الحال في نظام صدّام حسين الذي بقي على قيد الحياة من غزو الكويت عام 1990 إلى عام 2003، حين قرّرت أميركا تشكيل تحالف كونيّ لطيّ صفحة "البعث" إلى الأبد.

من يعرف تركيبة النظام السوري المعقّدة يعلم أنه قادر على الاستمرار على هذه الشاكلة عقوداً طويلة بغياب تحالف دولي لتغييره

على التوازي، لن تكون عودة الأسد إلى الساحة العربية والدولية "شيكاً على بياض"، لعلّه اختبارٌ لقدرة نظامه على إعادة التموضع عربياً وإقليمياً، وما يجري حالياً هو مرحلة جديدة من الصراع السوري، لكن هذه المرّة إرادة السوريين خارج أيّ حساب، بعدما تحوّلت البلاد بالأمر الواقع إلى ثلاثة أقاليم منفصلة. والنتيجة أنّ الأسد يتربع على ركام دولة منهارة محاطة بمنتفعي الحرب، ولن يكون بحاجة إلى لملمة جراح شعبه بل سيسعى لإرضاء حلفائه في النزاع. وعليه، سيكون النظام السوري، بعد انتصاره المزعوم، "مجرّد لاعب صغير"، وستكون روسيا المارد الخارجي الأكثر نفوذاً، وستضمن إيران نفوذها الدائم في بلاد الشام، بينما يؤكّد رجال استخبارات إسرائيليون أنّ "الوضع القائم ليس هو الوضع المثالي، لكنه الوضع الأفضل"، فالأسد لا يسعى إلى أيّ حربٍ مع إسرائيل، لكون سورية المثال الجيد للدولة العدوّ، وبفضل "حليفهم" السريّ كُبح تمركز حزب الله في هضبة الجولان السورية، وأعادت إيران نشر قوّاتها إلى المدى الذي كانت تطمح إليه تل أبيب. في السياق، تبدو فاتورة الحرب المترتبة على نظام الأسد أكبر بكثير من أن يتحمّل عبئها، فالعقود الاقتصادية التي انتزعتها روسيا تجعله في دائرة الدَّين عقوداً، زد على ذلك الاستحقاقات الإيرانية، إذ لطالما صرّح مسؤولون بأنّ الحرب السورية كلفت إيران مليارات الدولارات: هي التي تنتهج استراتيجية افتعال الأزمات المزمنة، ومن ثم تتدخل لحلّها لقاء أثمان.

أما الاستحقاق الكبير فهو في الداخل السوري الذي يتهاوى يوماً بعد يوم، فشبح الديكتاتور سيظلّ يطارد السوريين حتى بعد سقوطه، يعكس لهم تجلّياته في حجم التركة الثقيلة: بنى تحتية متهالكة، ديون متراكمة، نسيج اجتماعي مُمزَّق ونعرات طائفية ملتهبة، بقايا من أيتام وأرامل ومعاقِي حرب يشكّلون مشروعاً مستقبلياً لكلّ صنوف العاهات الاجتماعية. وفي الحقيقة، طرازٌ رفيع من الأسئلة النافلة تكوّنت لدى السوري خلال خمسة عقود، تتخذ صفة التشكيك في المنطق الكسيح الذي يتّصف به نظام ما زال مقتنعاً بأنه لم يحدُث شيءٌ في سورية، فماذا يعني سقوط نصف مليون قتيل أو تهجير ما يزيد على عشرة ملايين سوري من بيوتهم؟! والحقيقة لا أجوبة لدى هذا النظام المنفصم عن أسئلةٍ من نوع: ماذا يستطيع بشّار الأسد تقديمه اليوم لإنقاذ بلاده، بينما ينصبّ جلّ تفكيره في حماية كرسيه وكسر عظام شعبه وردّه مهزوماً إلى حظيرة الطاعة التي تجرأ على الخروج منها بعد عقود من الذلّ والهوان والخرَس القسري؟

فعلياً، لا شيء مهمّاً على طاولة طاغية دمشق، باستثناء خرائط البؤر المنتفضة ضد حكم العائلة

 

فعلياً، لا شيء مهمّاً على طاولة طاغية دمشق، باستثناء خرائط البؤر المنتفضة ضد حكم العائلة، لذا كفّ عن المناورة والتستر وراء الشعارات والخطابات وراح يلوح بالزلازل والانفجارات والفوضى التي ستعمّ المنطقة من بعده. قالها غير مرّة إنّ استقرار إسرائيل من استقراره، ليضع يده على الجرح الوحيد الذي يوجع الغرب ويستفزّ حواسه. "الأسد ملك إسرائيل" هكذا عنونت صحيفةُ هآرتس العبرية تقريراً لها، مؤكّدة أنّ الجميع في إسرائيل يحبّون الديكتاتوريين العرب، وأحبّهم هو بشّار الأسد لأنه يقول ولا يفعل، وأنهم يصلُّون من قلوبهم للربّ كي يحفظ سلامة النظام السوري الذي لم يحارب إسرائيل منذ عام 1973 رغم عدائه "الظاهر" لها.

على أية حال، تبدو عبارة "يعيش الطاغية.. يموت الوطن" الترجمة الحرفية الأمينة لواقع السوريين الراهن، حيث لا نعثر على الوطن في سجل الأولويات، بل في الهوامش المنسية، بينما يحرص الأسد على أن يعيش وفق منطق الرعاع، يطلب الحوار بغرض التنكيل وتفريغ طاقته السامّة، مستهلكاً اللغة الوطنية في صياغات مخادعة ومكرّرة حدّ الاستفزاز لإقناع الناس بأهمية "الرئيس". كلّ هذه الصياغات تصريفات مواربة لعبارة محدّدة، يعني بها "أنا الوطن" الذي يغدو مرهوناً بوجود الدكتاتور، ما إن يسقط حتّى يتهاوى البنيان كقطع الدومينو، وعلى السوريين دفع الأثمان الباهظة لجرائم الأسد بعدما استخدمهم وقوداً في حروبه "الدونكيشوتية" العبثية، ثم تركهم يموتون من البرد والفقر والقهر والإذلال، ويغرقون في ظلام العدم الدامس.