الاختيار: حان الآن موعد آذان الكذب
لم يذكر التاريخ أنّ فرعونًا من الفراعنة اهتم بتحنيط نفسه دراميًا، من خلال تعبئة حياته في مسلسلات، كما يفعل عبد الفتاح السيسي الآن، مع الوضع في الاعتبار الفارق بين دوافع الفرعون القديم، الأصلي، للاهتمام بالمستقبل بعد الموت، ودوافع الفرعون المزيّف ذي الخلفية العسكرية.
كان الفرعون القديم مطمئنًا، على نحو ما، للمستقبل، مستندًا على ماضٍ في الحكم والملك والإدارة، يرى نفسه من خلاله جديرًا بالخلود في مستقبلٍ آخر بحياة أخرى. أما هذا الذي يحنّط نفسه، وهو على قيد الحياة، فأرجّح الظن أنّه مرعوب من المستقبل، مذعور مما سيقوله التاريخ عنه، فقرّر أن يدوّن التاريخ ويحنّطه في مسلسل، يشرف على إنتاجه بنفسه، وهمًا منه بأنه بذلك نجح في استئناس التاريخ وترويضه وتوجيهه للعمل في خدمته.
كان الفرعون، قديمًا، يحرص على تخليد فترة حكمه وأعماله، وتفاصيل حياته، إما عن طريق العمارة، بناء أهرامات ومسلات وتماثيل، أو عن طريق التحنيط، كما هو ثابت في كل الدراسات الهيروغليفية.
فكرة الخلود، أو التخليد والتحنيط، لا تنفصل عن فلسفة الاستبداد والطغيان، فالفرعون يريد أن يمتلك الآخرة، كما امتلك الدنيا. ومن هنا كان الولع بزخرفة المقابر والإبداع في بناء التماثيل التي تجسّد الحاكم، اعتقادًا منه بالحياة بعد الموت، وعودة الروح إلى الجسد، الذي يجب أن يكون على هيئة تمثالٍ جميل، ظنًا أنّ الروح لا تعود إلى السكن إلا في الجسم الأجمل.
عبد الفتاح السيسي مسكون بوهم الخلود، ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي 2021، أقام حفل استقبال أسطوريًا، لاستقبال 22 مومياء، من ملوك الفراعنة، نقلهم في موكبٍ ضخمٍ من ميدان التحرير إلى الفسطاط، ووقف يحييهم، مومياء مومياء، أو زميلًا زميلًا، بوصفه الفرعون الأخير، فبدا، مع كل خطوة وكل إيماءة وكل كلمة، وكأنه يريد أن يقول للجميع إنه واحدٌ من هؤلاء الملوك المحنّطين.
بالطبع، لا يعدم الجنرال/ الفرعون جيوشًا من الكهنة المزيفين، الذين يفرضون مسلسله كتابًا مقدسًا، لا يجوز انتقاده أو مناقشته أو التعليق عليه، إذ اكتشف أحدهم فجأة أنّ التقويم الدرامي العسكري هو الأكثر دقةً والأنسب للبلاد، ذلك أنه وجد أنّ الناس صارت تضبط مواعيد حياتها وارتباطاتها اليومية بالمسلسل، بحيث صار التوقيت "قبل الاختيار 3" و"بعد الاختيار 3"، لكن الرجل كان متواضعًا حين توقف عند هذا الحد، ولم يطالب بتغيير مواعيد الإفطار والأذان والصلاة والصيام، لتكون محسوبةً على توقيت المسلسل، فيقول المذيع التلفزيوني، مثلًا "حان الآن موعد "الاختيار 3" بدلاً من القول "حان الآن موعد أذان المغرب أو العشاء".
تكشف هذه اللوثة القومية المصاحبة للمسلسل عن ارتداد عنيف وتراجع مخيف في مفهوم الفنون والنقد الفني، فصارت كل الصحف وكل الأقلام والمنابر تشترك في عرض تحليلٍ موّحد، وانطباعات نقدية واحدة، عقب كل حلقة، فيدهشك أن "عبدة المسلسل" صاروا نسخة واحدة، كلهم ينفعلون الانفعالات ذاتها، ويعبّرون عن الانطباعات نفسها، يكتبون الرأي ذاته، من دون أدنى اختلاف أو تباين في الألفاظ والمصطلحات، وكأنهم جميعًا ينقلون من "صحيح الأخبار فيما يتعلق بمسلسل الاختيار" لمؤلفه عبد الفتاح السيسي.
كل ما يصاحب عرض المسلسل من حشود إعلانية وإعلامية وفقهية وفتاوى، تهبط بمستوى الشيوخ إلى ما دون مستوى فنانات الإغراء، يجعلك تشعر وكأنّ كل ما في مصر مكرّس لحرب درامية بقيادة جنرالٍ خائف، يخوض محاولة للتفلّت من حكم التاريخ عليه، ومصادرة شهادات المستقبل عن ماضيه الدموي، متبعًا آلية الهروب إلى الأمام، فيقفز إلى كتابة التاريخ، وإغلاق صفحاته، متخيلًا أنه بذلك لن يبقى مجال لأحد غيره لتسجيل عصره، وهذا في الأغلب تعبير عن كابوس يطارده ويصرخ فيه بأنّ جحيمًا من الحكايات والروايات سوف يبتلعه بعد رحيله، وهو ما يعني من ناحية أخرى، أنّه يعلم أنّ سوابق أعمال حاضره وماضيه لا تؤهلانه إلا للتواجد في تلك المساحة البارزة في مكبّ مخلفات التاريخ.
الأمر يشبه، على وجه من الوجوه، فكرة الهروب عبر الهوية، التي تشكلت بفعل الجغرافيا والتاريخ الحقيقيين، إلى انتحال هوية أخرى، في جغرافيا مغايرة، ويجسّد ذلك هوسه الشديد بإنشاء جمهورية جديدة، ذات عاصمة جديدة، تخاصم القديم كله وتقاطعه، وتعزل نفسها بعيدًا عن الناس الأصليين، وتقيم جدرانًا وحصونًا ومصدّات تمنع وصولهم إليها وامتزاجهم بها.
هكذا تأتي فلسفة "دراما الاختيار" تجسيدًا لتلك الرغبة في الاختباء من الواقع، والهروب إلى مستقبل/ تاريخ ليس في وسع أحد الاقتراب منه، لتصبح هنا امتدادًا أو انعكاسًا لفكرة اختراع جمهورية جديدة بعاصمة جديدة، بشعب جديد، يتوّهم أن يستطيع صناعته على عينه، وتشكيله وتربيته بالطريقة التي يحدّدها.
على أنّ كل هذه الأسلحة التي استخدموها في العبور بالمسلسل فوق جثة التاريخ الحقيقي، قد انفجرت في وجوه أصحابها، ووضعتهم في حالة دفاعية مضحكة، بعد أن ظنوا أنهم أعدوا العدّة لاجتياح واكتساح كاملين.
والوضع على هذا النحو، صرت أشعر أن التعامل بجدية مع كوميديا الكذب في مسلسل الاختيار، هو بحد ذاته شكل من أشكال العبث لا يقل مسخرًة عن المسلسل.
دعه يكذب .. دعه يمر.