الاختراقات الإقليمية المنتجة تستوجب مقدّمات جديدة
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
الاختراقات التي شهدتها منطقتنا في الأعوام الأخيرة على صعيد مدّ الجسور مجدّداً بين دولها (بين تركيا وكل من مصر والإمارات وإسرائيل، وبين السعودية وإيران، وانفتاح معظم دول المنطقة على سلطة بشار الأسد)، والتطبيع مع إسرائيل (الإمارات، البحرين، السودان ...)، كان من شأنها أن تحقّق نتائج إيجابية لو جاءت ضمن إطار استراتيجية عامة، هدفها وضع حلول واقعية مستدامة لقضايا الإقليم (وفي المقدمة منها القضيتان الفلسطينية والكردية)، ومعالجة الأوضاع في الدول المأزومة نتيجة الاستبداد والفساد والتدخّلات الخارجية، سواء الإقليمية أم الدولية، فمن دون التوصل إلى حلول عادلة واقعية مقبولة من الأطراف المعنية لهذه القضايا، ومعالجة سببية للمشكلات الموجودة، سيكون أي حديث عن التنمية والفوائد المشتركة، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، والتعاطف الإعلامي مع محن شعوب المنطقة مجرّد كلام مجاملاتي، هدفه إضفاء مسحة من التزيين على صفقاتٍ تفتقر، بناء على المعطيات المتوفرة والقرائن الملموسة والسلوكيات، إلى مقوّمات النجاح والاستمرارية.
ومن هنا، يبدو واضحاً أن ما دفع مختلف الأطراف إلى عقد الصفقات المعنيّة هي الأولويات الخاصة بكل طرف، وليست النظرة الاستراتيجية المتكاملة التي ترى أهمية وضرورة القطع مع عقلية الهيمنة والتوسّع التي تتجاهل تطلّعات الشعوب، بل ترهقها بالاستنزاف، وتستخدمها أداة في مشاريعها تحت يافطاتٍ تؤجّج المظلوميات المذهبية، أو تطالب باستعادة الأمجاد القومية.
عانت شعوب منطقتنا، وتعاني، من حروب ونزاعات وصراعات كثيرة، معلنة وغير معلنة؛ وكان ذلك كله، وما زال، بفعل إصرار الأنظمة الحاكمة على تعزيز هيمنتها واستمرارية سلطتها، وحرصها على إقصاء الخصوم، وسدّ الآفاق أمام أي احتمال لتداول سلمي للسلطة كان من شأنه فتح المجال أمام مقارباتٍ جديدة واقعية مفيدة لجملة القضايا والمشكلات التي تسبّبت في تحويل منطقتنا إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات والمنازعات والحروب التي بدّدت الموارد المادية والبشرية.
لا ينكر أي عاقل حاجة منطقتنا الماسّة إلى مشروع إقليمي طموح، يضع في حسابه قبل كل شيء احترام تطلّعات شعوبها
وأمام هذا المشهد، لا ينكر أي عاقل حاجة منطقتنا الماسّة إلى مشروع إقليمي طموح، يضع في حسابه قبل كل شيء احترام تطلّعات شعوبها، وضمان مقوّمات العيش الكريم، غير أن ذلك لن يتحقّق من دون القطع مع عقلية التكفير والتخوين؛ والتأسيس، في المقابل، لعقلية نقدية إبداعية تحترم الآخر المختلف بعيداً عن الأحكام النمطية والمسبقة، وبمنأى عن سياسات استغلال الدين أو المذهب أو القومية لصالح جهودٍ تعبويةٍ تجييشيةٍ تخدم استراتيجيات تسلطية توسعية.
وإذا حاولنا الاستفادة من تجربة أوروبا التي شهدت، هي الأخرى، حروبا كثيرة وصراعات دامية بين دولها، ومصادمات عنيفة داخل كل دولة، وقد كلفتها تلك الحروب والصراعات (الحروب الدينية والبينية والعالمية والصراعات الدموية الداخلية) عشرات الملايين من البشر؛ فسنرى أن إمكانية تجاوز ذلك كله لم تكن ممكنة إلا مع بروز أنظمةٍ استمدّت الشرعية من شعوبها، واعتمدت في استمراريتها على تلك الشعوب؛ وذلك بموجب قواعد ديمقراطية تأثّرت بهذه الصيغة أو تلك بخصوصيات كل دولة؛ ولعل هذا الأمر يفسّر مسألة تخلّف كل من إسبانيا والبرتغال عن جهود التأسيس لمشروع الاتحاد الأوروبي، فقد انضمّتا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية (السوق الأوروبية المشتركة) في عام 1986، وذلك بفعل هيمنة الحكم الدكتاتوري في كل منهما.
فالحكومات التي كانت تدير الدول الأوروبية في مرحلة تأسيس العمل الأوروبي المشترك بعناوينه المختلفة لم تكن هي ذاتها التي وجدت في الحروب والنزاعات وسيلةً للبقاء في الحكم، وإنما كانت حكوماتٍ منتخبة بإرادة حرّة من مواطنيها، وهي الحكومات التي توصلت بعد تجربة حروب تدميرية كبرى إلى قناعةٍ راسخةٍ بإمكانية، بل بضرورة بداية عهد جديد من العلاقات أساسه احترام السيادة الوطنية والتوافق على تبادل المصالح المشتركة عبر الحوار والتفاهم، والتوافق على قاعدة احترام إرادة الشعوب والاعتراف بأنها مصدر شرعية الحكم.
وكانت البداية من المشاريع الاقتصادية المشتركة (المجموعة الأوروبية للفحم والصلب 1951، المجموعة الاقتصادية الأوروبية 1957) لصالح جميع الدول الأعضاء، حتى تم الوصول إلى الاتحاد الأوروبي 1993، وهو الذي أوجد أرضية للسياسات والقوانين الإدارية المشتركة، ورسخ الثقافة المشتركة، ومكّن من انطلاقة المشاريع المشتركة في سائر الميادين، لا سيما في الاقتصاد والصحة والبحث العلمي والدفاع وغيرها.
عقلية الهيمنة والتوسّع والسيطرة هي العدو اللدود لأي توجّه توافقي يقوم على المصالح المتبادلة، ولا سيما الاقتصادية منها
ولا يخفى على أحد اليوم أن هذا المشروع الأوروبي يتعرّض لمخاطر جمّة منها داخلية المصدر، تتمثل بصورة خاصة في تفاقم النزعات القومية العنصرية الانعزالية، ونزعات الإسلاموفوبيا بأشكالها المختلفة؛ ومنها خارجية المصدر يجسّدها بصورة أساسية النزوع الروسي التوسّعي، والتهديدات التي يشكّلها هذا النزوع لا سيما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وهي الحرب المستمرّة منذ نحو عام ونصف العام، ولا يلوح في الأفق ما يوحي بقرب نهايتها. وقد كلفت هذه الحرب، وتكلّف، الأوروبيين الكثير على المستوى الاقتصادي. وهذا فحواه أن عقلية الهيمنة والتوسّع والسيطرة هي العدو اللدود لأي توجّه توافقي يقوم على المصالح المتبادلة، ولا سيما الاقتصادية منها.
أما بالنسبة إلى منطقتنا التي تعرّضت، وتتعرّض، منذ عقود، لخرابٍ يتمثل في تجفيف مصادر العيش الكريم للناس، وانهيار مريع على صعيد احترام حقوق الإنسان، واستفحال ظاهرة توظيف المظلوميات المتخيّلة، لا سيما المذهبية في المشاريع التوسعية، واستخدام المليشيات لإحداث الخلخلة في مجتمعات المنطقة عبر القتل والتدمير والتهجير والتغيير السكاني، يُلاحظ أن الأنظمة ذاتها المسؤولة عن كل هذا الخراب، تروّج، ومن خلال الأشخاص عينهم، ضرورة التركيز على المستقبل وتجاوز الماضي؛ وهي تفعل ذلك من دون أي مراجعاتٍ تعترف بالأخطاء، وفي غياب أي التزام يوحي بحدوث تحوّلات نوعية على مستوى الرؤية والاستراتيجية والأولويات. فما حصل منذ التوقيع على الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، على سبيل المثال، لا يتجاوز حدود التهدئة الإعلامية والتمنّيات المستقبلية. ومن الواضح أن النظام الإيراني كان في حاجةٍ إلى هذه التهدئة أكثر من السعودية، وذلك نتيجة التذمّر الشعبي العارم الذي ساد إيران بعد قتل أجهزة النظام مهسا أميني، وعلى أثر تصاعد نبرة التبرّم والاحتجاج في الأوساط الشيعية العراقية الشعبية المحرومة التي عانت الأمرّين نتيجة الفساد الذي مارسته الجماعات المرتبطة عضويا بالنظام المذكور، فجاء الاتفاق مع السعودية ليخفّف التركيز الإعلامي على انتفاضة الإيرانيين، ولا سيما الإيرانيات، وهي الانتفاضة التي كانت في طريقها إلى التأثير الأعمق في العالم الغربي، الأمر الذي كان من شأنه دفع صنّاع القرار إلى اعتماد سياساتٍ أكثر تشدّدا مع النظام المذكور، وذلك تحت ضغط توجّهات شعوبهم، ورغبة منهم في الحصول على مكاسب انتخابية. فالاتفاق المذكور أتاح الفرصة للنظام الإيراني ليعيد ترتيب أوراقه، ويتفرّغ بأريحيةٍ لعمليات قمع الداخل. كما تمكّن من كسب مزيد من هامش المناورة في قضية الملفّ النووي وتطوير الأسلحة، بما فيها الصواريخ الباليستية، مستغلاً في ذلك التعامل الغربي الرّخو معه، ولا سيما في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا؛ ولعلّ قضية إطلاق السلطات البلجيكية سراح الدبلوماسي الإيراني أسد الله أسدي المتهم بالإرهاب لدوره في التخطيط لمحاولة تفجير اجتماع للمعارضة الإيرانية في فرنسا عام 2018، لعل هذا الإفراج يندرج هو الآخر في إطار سياسة المرونة اللافتة التي تتبعها الدول الغربية مع النظام المذكور.
بفضل ثقة هذه الشعوب تمتلك الحكومات الشرعية، واستناداً إلى دعمها تتمكّن من المضي في الخطط التنموية الطموحة
وفي العراق، أدرك النظام الإيراني صعوبة الاستمرار في السياسة الابتلاعية التي اعتمدها لنحو عقدين، خصوصا بعد تنامي الشعور الوطني العراقي في الأوساط الشيعية التي طالبت صراحة بوقف التدخلات الإيرانية في الشؤون العراقية، وعبّرت عن ارتياحها لخطوات الانفتاح والتواصل مع المحيط العربي، الأمر الذي دفع النظام المعني نحو التسريع في خطوات التطبيع مع السعودية، بغية امتصاص الغضب الشعبي العراقي والالتفاف عليه؛ والاحتفاظ بنقاط استناد تمكّنه من متابعة مشروعه التوسّعي في كل من سورية ولبنان؛ وربما يلقي هذا التوجّه بعض الضوء على خطوة إعادة سلطة بشّار الأسد إلى جامعة الدول العربية، بمباركة روسية إيرانية، ومن دون أي التزام واضح صريح بالحل السياسي العادل الذي ينتظره السوريون. بل كانت المفارقة الكبرى حينما تجاهل بشّار الأسد الوضع الداخلي السوري، وكأن شيئاً لم يكن لأكثر من 12 عاما، وإنما استمرّ في تحميل الآخرين المسؤولية، رافضاً الاعتراف بأن الثورة السورية كانت نتيجة فساد سلطته واستبدادها، وهي السلطة التي اقترفت المجازر بحقّ السوريين المنتفضين، واستخدمت ضدّهم كل أنواع الأسلحة بما في ذلك الطائرات والصواريخ والأسلحة الكيماوية. ولم تكتف السلطة المعنية بذلك، فاستنجدت بالإيرانيين والروس، وفتحت البلاد أمام المليشيات بأسمائها وألوانها المختلفة، خصوصا المذهبية منها، لمساعدتها في قتل السوريين وتدمير مدنهم وبلداتهم وتهجيرهم، فذلك كله غاب عن خطاب بشّار الأسد، كما غاب عن خطابات الذين رحبوا بالأسد من مواقع مختلفة في جامعة الدول العربية.
مختصر الكلام: منطقتنا في حاجة ماسّة إلى التوافقات بين القوى الإقليمية المحورية المؤثرة جميعها لفتح الآفاق أمام حلول ممكنة لجملة القضايا المزمنة التي أخذت وقتا وجهدا كثيريْن، وأنهكت المنطقة واستنزفتها بشرياً ومادّياً نتيجة الحروب والتدخلات والاصطفافات؛ غير أن هذه التوافقات تستوجب إعادة النظر في مفاهيم وتوجّهات كثيرة، وبناء جسور الثقة، وذلك يتم من خلال تبديد الهواجس، وتجاوز عقلية التقية وانتهاز الفرص.
ولعله من تحصيل الحاصل أن نؤكّد مجدّداً ضرورة الاستعانة بثقة ودعم سائر شعوب المنطقة ومن دون أي استثناء، فبفضل ثقة هذه الشعوب تمتلك الحكومات الشرعية، واستناداً إلى دعمها تتمكّن من المضي في الخطط التنموية الطموحة التي ستفتح الآفاق أمام مستقبل مشرق كريم للأجيال الشابة والمقبلة.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.