الاجتياح الروسي .. عربياً
من الصعب وضع المعالم الرئيسية لما ستؤول إليه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما سيترتب عليها على صعيد عالمي، في مجالات مختلفة استراتيجياً واقتصادياً، غير أن من الواضح أنّ هذه الأزمة لن تكون "علاقة عابرة" في النظام الدولي، بقدر ما تمثّل مؤشّراً على أنّ هنالك تحدّيات حقيقية للهيمنة الأميركية الرخوة وتفكّك لنظام أحادي القطبية الذي وسم، شكلياً، موازين القوى الدولية، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وكانت حرب الخليج (عاصفة الصحراء 1991) إيذاناً بولادته.
في سياقٍ مشابه، قارنت المحللة الأميركية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، آنا يورشكوفسكايا، اجتياح روسيا بعاصفة الصحراء تلك، من خلال دروس استفادها الروس من تلك الحرب (وفقاً ليورشكوفسكايا، حرب تاريخية على صعيد العمليات العسكرية). المهم أنّ الاجتياح الروسي لأوكرانيا يشي بتفكك النظام الدولي الحالي، كما كانت عاصفة الصحراء بمثابة رصاصة الرحمة على نظام القطبين الدولي.
لم يكن متوقعاً (واقعياً) تدخل عسكري غربي لمساعدة أوكرانيا. وفي المقابل، تكشف تصريحات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، حجم خيبة الأمل من ردود الفعل الأميركية والأوروبية، فقد قال "لقد تُركنا وحدنا للدفاع عن بلدنا والعالم يشاهد عن بعد"، فـ"يا وحدنا" الأوكرانية هذه المرّة تمثّل ضربة قاصمة لسمعة أميركا وأوروبا، وتؤكد أن هنالك تحوّلات بنيوية في سمات النظام الدولي، بعد ثلاثين عاماً على تشكّلاته الأولية.
بالعودة إلى العالم العربي وانعكاسات ما يحدث عليه، إذا كان من المبكّر توقع المتغيرات الدولية والإقليمية النهائية، فإننا أمام مرحلة انتقالية دولية وإقليمية، لعل أحد دروسها الرئيسية الواضحة للعيان تجذّر القناعة بتراجع الهيمنة الأميركية، وعدم ضمانة الاكتفاء بالمظلة الأميركية، ولعل ما حدث، أخيرا، في أفغانستان، وقبل ذلك في سورية، وما يحدُث في العراق، أمثلة عديدة على أنّ هنالك تحدّياً جدّياً وكبيراً للهيمنة الأميركية.
معروفٌ أنّ هنالك تنسيقاً روسياً - إيرانياً في سورية. وفي المقابل، هنالك مصالح مشتركة روسية - إيرانية في أفغانستان، ومصالح مشتركة روسية - صينية - إيرانية، ما يمثّل محوراً دولياً يطوّر من صلاته وعلاقاته وتحدّيه النظام الأميركي، فيما يبدو الموقف التركي، على الرغم من تصريحات الرئيس أردوغان برفض الغزو الروسي، مرتبكاً بين مصالح متضرّرة ومفكّكة مع الإدارة الأميركية وتوترات مع دول أوروبية ومصالح مشتبكة واتفاقيات مع الروس، ما يجعل الموقف التركي من المواقف الأكثر تعقيداً تجاه الأزمة الأوكرانية.
على الأغلب، ستنعكس هذه التحولات على ساحات معينة بصورة مباشرة، وأخرى بصورة أقل، ففي العراق وسورية هنالك تماسّ مباشر مع خطوط المواجهة الأميركية - الروسية، وسيتجه المشهد فيهما نحو تعزيز الأدوار الروسية والإيرانية، وتحدّي النفوذ الأميركي، لكن الأهم، على المديين المتوسط والبعيد، أنّه على الرغم من أنّنا لسنا في سياق العودة إلى الديناميكيات التقليدية للحرب الباردة، فإنّنا، في المقابل، سنشهد تحولاتٍ دوليةً تعيد تشكيل التحالفات والاستقطابات العالمية، وابتعاداً أو انشغالاً أميركياً عن المنطقة العربية بالتحديات الصينية والروسية، التي أصبحت الشغل الشاغل لمن يؤطّرون استراتيجيات الأمن القومي الأميركي.
التخبط الأميركي في المنطقة العربية ليس بحاجة إلى أي درجةٍ من التحليل، فهو بادٍ للعيان، منذ عقيدة أوباما (Obama Doctrine) التي نظّرت للابتعاد عن العالم العربي وعدم التورّط في مشكلاته، مروراً بـ"الترامبية" ومحاولات استعادة "الصفقة الكلاسيكية" مع السلطويات العربية (المصالح الأميركية مقابل التغاضي عن ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان)، ثم عودة الديمقراطيين، ونحن نشهد عدم استقرار ملموس في السياسات الأميركية، انعكس على التحالفات والعلاقات مع العالم العربي.
في ضوء الأزمة الأوكرانية والتحولات الدولية والتراجع في النفوذ الأميركي والأوضاع الإقليمية المتوترة، فإنّ حالة عدم الاستقرار والتوتر التي دخل فيها العالم العربي منذ 2011، أي مع الثورات الشعبية العربية، مرشّحة للاستمرار في ظل ما يمكن أن ينجم من أزمات اقتصادية عالمية، وفي ظل الأزمات الاقتصادية الداخلية وعجز الأنظمة عن الإجابة عن التحديات الداخلية الكبرى، منها ضغوط ديمغرافية هائلة، ونمو في حالة السخط والإحباط لدى شرائح اجتماعية عريضة. لذلك كلّه لسنا أمام مرحلة هادئة ولا مستقرّة متوقعة عربياً، طالما أنّنا لم نبن أوضاعنا الداخلية على أسسٍ راسخة من الشرعية والعدالة والتوافق.