الأم ليست مدرسةً

20 مارس 2016

أم ترفع صورة ابنها الذي قتل مع الجيش السوري(إنترنت)

+ الخط -

في سورية التي اختصر حسن نصر الله اسمَها، ذات يوم، فجعلها "سورية الأسد"؛ ما إن يقترب عيدُ الأم، حتى يشحذَ السادةُ الكتابُ والصحفيون المناوبون في "البعث" و"الثورة" و"تشرين" أقلامَهم، ويبسطوا أوراقَهم أمامهم، ويبدأوا بكيل المدائح الإنشائية والخطابية لأمهاتنا الطيبات المسكينات، اللواتي يعرفن أن الجنة تحت أقدامهنَّ، لكن أبناءهن، في الواقع، لا يعملون لأجل الجنة..؛ إذ قلما ترى ابناً يبرّ والدتَه، ويعمل من أجل رضاها، ليدخل الجنة، بل يخاف، إن هو أكرمها، أو أحضر لها هدية، من غضب أبيه، أو سخريته، وقوله: المرأة تبقى امرأة، يا ولدي، ولا لزوم للتشبه بالأجانب وإقامة الأعياد لأجل خاطر سعادتها.

صنعَ الشاعرُ المصري حافظ إبراهيم لهؤلاء الكتاب العاطلين عن الإبداع عكّازاً يتكئون عليه، طوالَ الدهر، حينما قال:

الأمُّ مـدرسـة إذا أعــددتــهــــــــــا/ أعددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ

فهبوا ليجعلوا هذا البيتَ الشعريَّ فاتحةً لخرابيشهم الإنشائية التي لا بد من تدوينها ونشرها، لكي تمر مناسبةُ عيد الأم في "سورية الأسد" على خير!.. ثم ينتقلون إلى تعداد صفات الأم السورية العظيمة، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ ثورة البعث العربي الاشتراكي، والحركة التصحيحية المجيدة؛ وأهم هذه الصفات أن الأمَّ لا تهتم لمقتل ابنها، في لبنان الشقيق، حيث أرسله القائدُ التاريخي حافظُ الأسد ليموت في أثناء مشاركته في قمع إخوتنا اللبنانيين والفلسطينيين، والتنكيل بهم، ولعن سنسفيل أجدادهم.. بل تتلقى خبرَ مقتله، أو (استشهاده، كما يقولون)، بالزغاريد، وربما بالرقص، مع الدعاء للقائد التاريخي المجرم الذي تسبب بموته بالنصر على الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.

في تلك الأيام البعيدة، لم يكن يوجد بين الكتاب مَنْ ينتقد سخافات الإعلام السوري، ويفنّد أكاذيبه، لسبب بسيط، هو أن هذا الإعلام أصبح، منذ أن عُيِّنَ المدعو أحمد إسكندر أحمد بوظيفة وزير إعلام، مُكَرَّسَاً لتمجيد القائد التاريخي، الاستثنائي، فإذا أنت انتقدتَ الإعلام، فلا ريب أنك ستصل، على مبدأ الأواني المستطرقة، إلى صاحب الرأس الكبير، ووقتها ستذهب، على حد تعبير نجيب الريحاني، في خبر كانَ!.. ولن يعرف "الذبابُ الأزرق" إلى مكان سجنك سبيلا.

انتقد الراحل ممدوح عدوان، ذات مرة، الإعلامَ السوري في جلسة ضمت قياديين كباراً في الدولة والمخابرات، فقال إن المرء ليخجل من كونه يشتغل في الإعلام السوري الذي يكذب حتى في درجات الحرارة. وفي وقت لاحق، شن ممدوح هجوماً صحفياً على برنامج تلفزيوني شهير، يأتي فيه المذيع إلى أمٍّ أُحْضِرَ لها ولدُها ضمن تابوت ملفوفٍ بالعلم الوطني، على أساس أنه اكتسب مرتبة "الشهيد"، ليسألها عن شعورها في هذه اللحظة العظيمة، لتقول له الأم المسكينة، ودخان الحزن الأسود يخرج من قلبها على نحو غير مرئي: إنها مسرورةٌ باستشهاده، وإنها تهدي هذه الشهادة للقائد التاريخي نفسه، حافظ الأسد.

إذا استحضرنا المثل الشعبي (أولُ الرقص حَنْجَلة)، نقول إن ما كان يحصل من امتهانٍ لعواطف الناس بشكل عام، ومشاعر الأمهات بشكل خاص، في الأيام العادية، ليس سوى الحَنْجَلة، وأما الرقص الذي يصل إلى مستوى هزّ الخصر والبطن، فهو الذي نشهده في أيام الأزمات.. وقد حدّثني صديقٌ يعيش في الساحل السوري، قائلاً إن السيارات العسكرية ما فتئت، منذ بداية تَسَلُّح الثورة، تنقل إلى القرى الموالية للنظام، جثامين شبان يخدمون في الجيش أو المخابرات، وقبل أن يصل الجثمان، تأتي الدورية الأمنية، لتتفق مع أهل القتيل حول مشاعر الاعتزاز والفخار التي يجب عليهم إظهارها للكاميرا، وكمية الأرز التي سيرشونها على السيارة العسكرية التي تتصدّرها صورة بشار الأسد، وكيف ستزغرد الأم وبناتها، وأين يجب عليها أن تقف لتقول: فداك يا بشار.

(ملاحظة: تهانُ الأم في مناطق داعش وجبهة النصرة، بطريقة أخرى، ربما نتطرق إليها في وقت لاحق).      

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...