الأمم المتحدة وناغورنو كاراباخ

23 سبتمبر 2023
+ الخط -

أظهرت التطوّرات أخيرا في إقليم ناغورنو كاراباخ، الذي كان متنازَعاً عليه بين أرمينيا وأذربيجان، أن منطقاً مرتبطاً بقرارات أممية حقّق انتصاراً صغيراً، على حساب دماء كثيرين، مدنيين وعسكريين من الأرمن والأذربيجانيين، مفادُه أن الإقليم جزءٌ من أذربيجان، وأن أرمينيا اعترفت بذلك. تحت سقف هذا المنطق، تصبح أمورٌ، مثل نقل الشعوب من منطقة إلى أخرى في سياق ترانسفير ديمغرافي، مجرّد بند ثانوي في اتفاقٍ كبير. صحيح أن القرارات الدولية دعمت حقّ باكو في ناغورنو كاراباخ، إلا أن 120 ألف أرمني يسكنون في الإقليم سقطوا، لا ضحية القرار فحسب، بل أيضاً أوهام القيادات في يريفان وستيباناكرت وباكو، وضمنهم طموحات روسية وتركية وإيرانية وأميركية وفرنسية.

بالمنطق، حققت الأمم المتحدة إنجازاً اخترق قوائم فشلها على مرّ العقود الماضية، لكنه لا يُعدّ نصراً طالما أن دماءً أُريقت لتحقيقه، فضلاً عن أن مبدأ "حقّ الشعوب في تقرير مصيرها" يبقى ملتبساً في ظلّ قوميات متبدلةٍ ومتحرّكة، مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا السابقيْن، وما تلاه من نزاعاتٍ عالقة، مثل كوسوفو مع صربيا، وكلاً من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية مع جورجيا. وهو المنطق نفسه الذي يجعل من شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون الأوكرانية في صلب صراع مدجّج بالأيديولوجيات وعمليات نقل الشعوب.

في السياسة، يُمكن لكل من يتمسّك، أو يدّعي التمسّك، بقوانين الأمم المتحدة، أن يناقش مصير تايوان وأقاليم متناثرة شرقاً وغرباً، إما تدعو إلى الاتحاد مع دولة أو تكوين دولة جديدة. لكن أيضاً وضمن هذا السياق، لا يُمكن تحمّل مزيد من عمليات الترانسفير الديمغرافية في العالم. في ناغورنو كاراباخ، أبدت يريفان استعدادها لاستقبال كل سكانه. أرمينيا أرضٌ واسعةٌ وسكانها قليلون و120 ألفاً آخرين من إخوانهم لن يشكّلوا عبئاً، خصوصاً أن حقبة مقبلة ستجعل من أرمينيا جزءاً من حراك اقتصادي يمتد من أذربيجان إلى تركيا ثم أوروبا.

إلا أن ما ينطبق على أرمينيا لا يُمكن تطبيقه على أي منطقة في العالم. في فلسطين المحتلة مثلاً، تبقى قرارات الأمم المتحدة عالقة، خصوصاً أن الاحتلال الإسرائيلي يرفض الاعتراف بها، سواء بما يتعلق بموضوع القدس أو كل فلسطين. هنا، لا يبدو أن للأمم المتحدة قدرة على اجتراح المعجزات، ولا حتى أن الدول المؤثّرة راغبة في ترجمة مقرّراتها، التي تصبّ في غالبيتها لمصلحة الفلسطينيين. ما حصل في ناغورنو كاراباخ صعبٌ تكراره في فلسطين.

يعيد هذا الأمر مسألة سلطة الأمم المتحدة وقوتها إلى الواجهة، فالمنظمة التي بدأت دورتها السنوية الـ78 في نيويورك تُظهر عجزها عن أداء الدور المفترض أن تؤدّيه بموجب ميثاق تأسيسها. وبالتالي، يعود "إنجازها" في ناغورنو كاراباخ إلى رغبة مصلحية بين دول وجدت نفسها في خندق واحد في جنوب القوقاز، لا بسبب قراراتٍ أمميةٍ مدوّنة، وتمّت الموافقة عليها منذ زمن طويل.

تطرح هذه المعضلة نقطة أساسية: هل يمكن الاستناد إلى مصالح عدة دول للحصول على الحقوق، أم يجدر الإبقاء على الاعتماد على الأمم المتحدة من أجل ذلك؟ يكفي النظر إلى الخريطة لتعداد البلدان الغارقة في معاناتها وتعداد آلاف القرارات الدولية المتعلقة بها، وظلت حبراً على ورق. يدفع ذلك إلى القول إن للأمم المتحدة منظومة هائلة وواسعة، لكن مفاعيلها مساوية لمفاعيل جمعيات غير حكومية صغيرة.

لم يخطئ من قال إن الأمم المتحدة في حاجة إلى تغيير جذري، سواء للحصول على مزيد من القدرة لترجمة قراراتها المنبثقة عن موافقة غالبية الدول الأعضاء فيها، من دون التحوّل إلى حكومة عالمية شمولية، أو امتلاك قوة أكثر لمنع دولة أو تجمّع دول من انتهاك مقرّراتها. الخطيئة هنا أنه في حال لم يكن التغيير تدريجياً ومتسارعاً في آنٍ، فإنه سيُحدث فراغاً عالمياً لن تملأه سوى الدول نفسها التي تعالج أزمات الكوكب.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".