متنبّئون وليلة رأس السنة
منذ نحو 20 أو 25 عاماً، بدأت تبرز ظاهرة "التوقّعات" في ليلة رأس السنة، ودائماً ما يتصدّر بعض المتنبّئين أو العرّافين (أو مهما كان اسمهم) لائحةً طويلةً من ناثري توقّعات عام جديد، وأكثر. في البداية، وكما كلّ شيء في بداياته، يكون هناك اهتمام ملموس وجدّي حيال تلك الظاهرة، غير أن الأمر تحوّل لاحقاً عبئاً ثقيلاً.
نادراً ما يحصل أن يتابع الناس، من أقصى الشرق الآسيوي إلى أقاصي الغرب الأميركي، شخصيات تدّعي توقّعها أموراً ستحصل في المستقبل، إلا في منطقتنا الشرق أوسطية وشمال أفريقيا. دائماً هناك من يصدّق مزاعم هؤلاء، التي غالباً ما تكون فضفاضةً وحمّالةَ أوجهٍ، خصوصاً إذا ما اقترنت بجمل غامضة وواسعة الاستيعاب.
لم يعد ممكناً الاعتقاد أن هناك من يتوقّع. لا إهانة أكبر من ذلك للعقل البشري، بما مُنِح من نعم التفكير والتصرّف. أصبح الأمر سماجةً لا تُطاق، بل أقرب إلى كوميديا سوداء، يمكن للجميع الضحك في ختامها. صحيح أن هناك من يتوقّع نتيجة مباراة كرة قدم، أو يُحلّل وضعاً سياسياً اقتصادياً مستقبلياً، لكن لا يمكن إدراك أن هناك من يتحدّث عن غيبيات، متصلة بالدين أو بالكونيات (غير الملموسة فيزيائياً)، والادّعاء أنه يملك مفاتيح المستقبل. حينها، لماذا لا يكون أمثال هؤلاء المتنبّئين أكثر دقّةً في تحديد ما يتوقّعون، وحتى التوجّه إلى السلطات المعنية في حال توقّعوا حصول حدث أمني أو اغتيال أو أيٍّ مما يتّصل بأمن المجتمع، استباقاً لوقوع الأسوأ؟
فكرة أن هناك من يتوقّع، وهناك من يتابع التوقّعات، وهناك جمهورا يواكب بشغف مثل تلك التوقّعات، تعني أن مفاهيم نموّنا بشراً في الشرق الأوسط تحتاج إعادة نظر. لا يمكن التخّيل، في ذروة توفّر المعلومات عبر الكوكب، أن بعضاً منا ينساقون إلى قياس أيّامهم بناءً على ادّعاء شخص أنه "يرى" المستقبل، فيما هو بعد حلقة "نارية" ليلة رأس السنة، سيعود إلى منزله ليستريح في سريره، من دون توقّع أن الكهرباء ستكون مقطوعة على سبيل المثال، قبل دخول المنزل. إذا أراد الناس إجراء مقارنةٍ بين أبطال التوقّعات، وقارن بين تناقضات ما يردّدونه، لفهم أنه قبالة ممثّلين يحاولون فرادى إقناعنا بأن "توقّعاتهم" هي الأدقّ. إذاً، ما الذي يعنيه ذلك غير طغيان مبدأ التمثيل على الناس، ضمن فكرة استغلال حاجاتهم وبحثهم عن أملٍ ما، ومحاصرة أيّ فكرة قد يتبنّونها للخروج من واقعهم؟ في المقابل، سيتلقّى هؤلاء المتنبّئون أو المتوقّعون، أموالهم، وسيقومون بما يريدون في انتظار ليلة رأس سنة أخرى.
يمثّل هذا النموذج من الهروب الجماعي إلى المجهول محاولةً يائسةً للفرار من الحاضر، فيما أن أيّ تطلّع إلى التغيير يبدأ من الحاضر. الحاضر لا يستطيع تغيير الماضي، فيما هو قادر على تغيير المستقبل، أمّا الهروب الواهم منه فليس سوى وسيلة لصناعة ماضٍ قاسٍ شبيه بما صنعناه سابقاً. حضور هؤلاء المتنبّئين بشكل شبه دائم في يومياتنا، يمنعنا أفراداً وجماعاتٍ من استخدام أدمغتنا لاستنباط الحلول لمشاكلنا الفردية والمجتمعية. مهمّة المتنبئين ليلة رأس السنة هي خلق واقع مفاده أن "عليكم أن تبقوا خائفين"، ذلك لأن الخوف وحده يحكم الإنسان، لا شيء غير. ومتى أدرك ذلك من لم يدركه بعد، فإنه سيُفاجَأ بامتلاكه الشجاعةَ اللازمةَ لتحقيق تغيير ما في حياته.
هل نحن فعلاً في عام 2025، نحتاج إلى إهدار وقتنا على أشخاص يجتهدون في القراءات لصياغة "توقّعات" (أو تنبّؤات) المستقبل، فيما أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من معرفة أن لا أحد يمكنه الإجابة عن سؤال من قبيل: كيف سيكون يوم غد؟ وعليه، يُصبح لزاماً على كلّ منّا بدء تحقيق ما يريد انطلاقاً من اللحظة الحاضرة؟ متى فهمنا ذلك، ستتحوّل جلسات "التوقّعات" السنوية فاصلاً كوميدياً على الأكثر.