الأمم المتحدة خارج الرادار
وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، بلغت الحروب مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، إذ يعيش مليارا شخص في مناطق حروبٍ ونزاعاتٍ شرّدت مائة مليون شخص، وهو أعلى عدد من النازحين واللاجئين يسجّل منذ ثمانية عقود. في ظل هذا الوضع الكارثي، كان يُفترض أن تشكّل "خطّة جديدة للسلام" التي كشف عنها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس في 20 يوليو/ تموز المنصرم، حدثا بارزا، خصوصا وأن عنوانها يحيل إلى خطّة السلام التي قدمها الأمين العام الراحل بطرس غالي في العام 1992، وأحدثت فرقا في أجندة المنظمة آنذاك.
جرى الكشف عن خطة غوتيريس ضمن سلسلة موجزات سياسية تهدف للتحضير لـ "قمّة المستقبل" المزمع عقدها العام المقبل، ومرّت مرور الكرام، ولم تلق صدى إعلاميا أو دبلوماسيا أو أكاديميا. ولم يُناقَش الجديد في خطته إلا من بعض جهاتٍ مختصّة بشؤون المنظمة. ذلك أن الأمين العام ومجلس الأمن وأعضاءه قد فقدوا مصداقيّتهم في الشؤون المتعلقة بالأمن والسلام، وأصبحت تصريحاتهم وخطواتهم لا تحرّك ساكنا، وقد جاءت الخطة ذاتها لتؤكّد ذلك. وتتضمّن خطة غوتيريس خمس توصياتٍ أساسية: التصدّي للمخاطر الاستراتيجية والانقسامات الجيوسياسية، منع نشوب النزاعات والعنف، تعزيز عمليات حفظ السلام، التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وتعزيز الحوكمة الدولية.
اللافت في الخطة أنها لا تمنح الأمم المتحدة دورا قياديا في إحلال الأمن والسلم الدوليين الذي منحها إياه ميثاق المنظمة، بل تُلقي بالمسؤولية على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتؤكّد أن عليها منع المخاطر الجيوسياسية ومعالجة الحروب ومظاهر العنف داخل بلدانها. وتفيد أن هذه الدول بحاجة إلى اتّخاذ خطوات استباقية للتخفيف من حدّة هذه المخاطر الأمنية، وتدعو إلى إزالة الأسلحة النووية التي تهدّد البشرية.
تركّز الخطّة على أهمية التعاون الدولي والدبلوماسية متعدّدة الأطراف في ظل نظام دولي يتسم بالانقسام والتنافس. أما عن دور الأمم المتحدة ووكالاتها ومسؤوليها في ظل هذه الرؤية الجديدة، فإنه ينحصر في تقديم الدعم للدول الأعضاء عبر تسهيل الحوار الدولي، وتوفير الخبرة "المحايدة"، وتمويل جهود بناء السلام. جاءت الخطّة برؤية واقعية لوضع الأمم المتحدة المهمّش اليوم في عالم متعدّد الأقطاب لم يتضح شكله بعد، وتقترح، بناءً عليه، أن تقتصر المنظمة على تسهيل التعاون الدولي، بدلاً من محاولة قيادته. بهذا تتخلى المنظمة الدولية عن دور السائق، لتكتفي بدور راكبٍ غير مسؤول عن سلامة الرحلة.
قبل أن تصبح أوكرانيا أكبر ساحة مواجهة بين روسيا والغرب، دفعت الدول العربية أكبر ثمن لانقسام الخمسة الكبار
ويشكّل هذا الموقف تراجعا واضحا عن الالتزامات التي أعلنها غوتيريس أمام مجلس الأمن في جلسة 10 يناير/ كانون الثاني 2017، غداة انتخابه أمينا عاما للمنظمة. وذكّر حينها بأن الأمم المتحدة تأسّست بهدف منع النزاعات، وأنه لا يعتبر هذا الهدف "مجرّد أولوية، بل إنه الأولوية بعينها". بعد تجربة أزيد من خمس سنوات على رأس المنظمة، اضطرّ الأمين العام إلى تغيير تقديره دورها في ضوء فقدان مجلس الأمن مصداقيته، بعدما تحوّلت علاقة الخمسة الكبار (أميركا، روسيا، الصين، إنكلترا، فرنسا)، من علاقة تعاون وتوافق إلى عداء ومواجهة تخوضُها الصين وروسيا ضد واشنطن وحلفائها الغربيين لإرساء نظام عالميٍّ متعدّد القُطبية.
وقبل أن تصبح أوكرانيا أكبر ساحة مواجهة بين روسيا والغرب، دفعت الدول العربية أكبر ثمن لانقسام الخمسة الكبار، وتحوّلت سورية وليبيا بدورهما إلى ساحة حرب وكالة بين موسكو وواشنطن، وأطراف أخرى. ثم انتقل التنافس والمواجهة إلى دول الساحل الأفريقي، وقد أنهت روسيا يوم 30 أغسطس/ آب الماضي عقوبات الأمم المتحدة على مالي باستخدامها حق النقض (الفيتو) للحيلولة دون تمديدها في مجلس الأمن. تخلّى مجلس الأمن عن دوره المحوري الذي قامت عليه الأمم المتحدة منذ 78 عاما لإنقاذ "الأجيال المقبلة من ويلات الحرب"، والذي يلخّص الميثاق أهم مقاصده في تحميله مهمّة حفظ السلم والأمن الدوليين، ومنع الأسباب التي تهدّد السلم ولإزالتها، وقمع أعمال العدوان، والتسوية السلمية للمنازعات التي قد تخل بالسلم الدولي.
جل هذه المقاصد والمسؤوليات الجسيمة تصبّ في ما يُعرف بـ "السلم الجماعي" الذي بات حبرا على ورق. وفي ظل فشل المجلس وشلله أحيانا، عادت الدول إلى الحرب، باعتبارها أقدم طريقة لحلّ الخلافات بين الأمم، ووقف المجلس والأمين العام وباقي المنظومة يتفرّجون على حرب الأسابيع الستّة التي تواجهت فيها أذربيجان وأرمينيا في ناغورنو كاراباخ، بعدما فشل مجلس الأمن في تنفيذ ثلاثة قرارتٍ له يطالب فيها بانسحاب قوات الاحتلال الأرمينية من كاراباخ ومناطق أخرى محتلة في أذربيجان.
خسرت الأمم المتحدة الاحترام الذي حظيت به عقوداً، وجنت على نفسها غضباً أصبح يحصد أرواح رافضيها، وتهميشاً تزداد رقعته مع اتساع رقعة الحروب
وفي مطلع 2022، سجّل المجلس في أوكرانيا تقاعسا كبيرا نظرا إلى خطورة الصراع وتداعياته. لم يتّخذ أي خطوة دبلوماسية لمنع الغزو الروسي لأوكرانيا، ولم يطرح غوتيريس أي وساطة، ووقف يتابع من بعيد جولات الحوار بين روسيا وواشنطن وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وحتى بعد اندلاع الحرب لم يلعب أي دوْر يُذكر، وتم الاستغناء عن دور الأمم المتحدة حتى في اتفاقية الحبوب التي تتم مناقشتها حاليا بين موسكو وأنقرة والدوحة لتقدّم بديلاً لاتفاق الحبوب في البحر الأسود، الذي كان يُشرك الأمم المتحدة، وانسحبت منه روسيا.
دخول القوى العظمى في صراعات اقتصادية وسياسية وأمنية حامية أفقد النظام العالمي بوصلته، وساهم في تفشّي مناخٍ يشجّع على حسم الصراعات الداخلية عبر الحرب، ورأينا كيف شنّ رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، حربا على جبهة تحرير شعب تيغراي، ثم تلتها الحرب في السودان، واتجهت الأنظار نحو مجلس الأمن الذي ما زال يُخضع السودان لأحكام الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، بموجب قرار مجلس الأمن 1591 الذي اعتمده في العام 2005، والقاضي بحظر الأسلحة في دارفور، وحظر السفر وتجميد أصول ثلاثة أفراد حددهم مجلس الأمن في القرار 1672 (2006).
رغم التهديد الذي تمثله الحرب في السودان لأمن المنطقة واستقرارها، لم يصدُر عن مجلس الأمن سوى بيانات صحافية إنشائية تفتقد أي قيمة سياسية، ولم تصدُر عن المجلس، وأي جهة أممية أخرى، أي مبادرة لتسوية سلمية للنزاع، في حين أن مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي عقد اجتماعًا على مستوى رؤساء الدول والحكومات في 27 مايو/ أيار، واعتمد "خريطة طريق الاتحاد الأفريقي لحل الصراع في السودان"، وقامت أيضا الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) بتحرّكات من أجل احتواء الحرب وتسويتها.
ساهم فقدان مجلس الأمن مصداقيته في تغوّل الأنظمة العسكرية وسطوتها على الحكم، واشتعال موجة انقلابات دستورية وعسكرية من آسيا، ميانمار تحديدا، إلى أفريقيا، بمباركة أعضاء مجلس الأمن أحيانا. ولعل عدوى الانتخابات في غرب أفريقيا ووسطها لم تكن لتنتشر على هذا النحو، لو لم تدعم فرنسا الانقلاب الدستوري الذي قاده الجيش غداة اغتيال إدريس ديبي، ونصّب نجل الأخير رئيسا، على الرغم من تعارض الخطوة مع الدستور التشادي الذي ينصّ على تولّي رئيس البرلمان المنصّب مؤقتا حتى إجراء انتخابات.
ساهم فقدان مجلس الأمن مصداقيّته في تغوّل الأنظمة العسكرية وسطوتها على الحكم، واشتعال موجة انقلابات دستورية وعسكرية
فتحت مباركة باريس وواشنطن انقلاب تشاد شهية عساكر أفريقيا للسطو على السلطة ومضت عدوى الانقلابات تضع الخمسة الكبار أمام تناقضاتهم، ولو كان مجلس الأمن يحظى بتوافق أعضائه الدائمين مثلما كان الأمر في التسعينيات، لشنّ حربا أممية على مالي والنيجر، مثلما فعلت في هايتي، حيث أذن القرار 940 في يوليو/ تموز 1994 لقوة عسكرية بقيادة واشنطن بإعادة الرئيس جان برتراند أريستيد وسلطات حكومة هايتي، بدعوى "استعادة الديمقراطية". وشكّلت هذه العملية العسكرية الأممية انتهاكا للقانون الدولي، نظرا إلى عدم وجود أي معاهدة أو اتفاقية دولية تحظر الانقلاب.
أوشك عهد بعثات حفظ السلام على الانتهاء، وقد أجّج عدد منها الحروب بدلا من إخماد نارها. وأرغم عساكر مالي مجلس الأمن على إنهاء بعثة حفظ السلام الأممية في مالي (مينوسما) مندّدين بفشلها. ينتظر المصير ذاته بعثة الأمم المتحدة لإرساء الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية المعروفة اختصارا بـ"مونيسكو"، وكانت السبب في مقتل عشرات المدنيين الغاضبين الذين خرجوا يوم 30 أغسطس/ آب الماضي للاحتجاج على البعثة والمطالبة برحيلها، وواجههم الجيش بالرصاص الحي. طبيعيٌّ أن يدافع جيش النظام الكونغولي عن بعثةٍ حليفة، ضربت بمبدأ الحياد الأممي عرض الحائط، وخاضت إلى جانبه حربا طويلة ضد متمرّدي حركة "إم 23"، وربحت معارك في عام 2013 لكنها خسرت الحرب.
لقد خسرت المنظمّة الاحترام الذي حظيت به عقودا، وجنت على نفسها غضبا أصبح يحصد أرواح رافضيها، وتهميشا تزداد رقعته مع اتساع رقعة الحروب والاضطراب عبر العالم. تعترف خطّة غوتيريس للسلام بهذا الفشل، وبأن المنظمة قد أصبحت خارج الرادار.