الأرض الخرساء
قديماً، قال أجدادنا: الأرض خرساء، لأنّها تطوي أسرارا كثيرة، إضافة إلى أنها تطوي تحتها البشر حين تنتهي رحلتهم فوقها، ومنهم الغنيّ، والفقير، والعظيم، والوضيع. ولا أحد يعرف ما الذي يحدث لهم ومعهم، حتى تأتي كارثة أو مصادفة، فتكشف نزراً مما خفي، ولكنك تستطيع أن تتابع ما يحدث فوقها من أحداث. ولجهلك وعجزك، فأنت لا تقف مكتوف الأيدي، وبحكم فضولك أو رغبتك بتحليل كل شيء، فأنت تجد لكل ما تلفظه من جوفها تفسيراً، لأنك لا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك، وأنت ترتشف قهوتك أمام شاشة التلفاز، وترى بأمّ عينك الزلازل والبراكين، والفيضانات، وكلّ ما تعبّر به الطبيعة عن تكاتفها مع الأرض في رغبتهما في تغيير معالم الخريطة الفوقية، وفي إرسال رسائل سريعة تكون مدعاةً لكي يدرسها العاقلون والباحثون، ولكي تصفها أنت وصديقك من خلال ثرثرة عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي أنها معجزات.
قبل أيام قليلة، كشفت الأرض عن جثمان أحد الشهداء تحتها، والذي قتل على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة في العام 2011، وتبيّن أن الجثمان ما زال على حاله لم يتحلّل، بل ما زالت الدماء التي سالت منه حينها حين نفدت منه الرصاصات رطبة لم تتجمّد، وإن كان في ذلك دلالة فهي معجزة كما قال كثيرون، وتدلّ على كرامات الشهداء التي يتحدّث عنها علماء الدين من فوق المنابر، وإن كان فيها جانب من الحقيقة فهم يأتون على ذكرها للتسرية على ذويهم وبثّ مزيد من الصبر والسلوان في قلوبهم.
في الجانب الآخر، أنت تقف متعجّباً وتتساءل: لماذا لم يتحلّل جثمان عبد الحليم حافظ، والذي يُجمع من تبقّى من قرابته على أنّه ما زال محتفظاً بهيئته، وخصوصا خصلات شعره المميزة، على الرغم من أن الراحل كان مغنّياً ولم يكن شهيداً ولا ولياً من أولياء الله الصالحين الذين يقصدهم العامة للتبرّك بهم وطلب الدعاء منهم لقضاء حوائجهم، والإجابة العلمية أن الأرض لها طبيعتها، ففي حال دُفن الجثمان في تربة جافّة لا تتسلّل إليها المياه فيمكن للجثمان أن يبقى على طبيعته من دون تحلّل 40 عاماً، وتسمّى تلك الحالة بحالة التحوّل "المومياوي"، في حين أن دفن الجثة في الماء مثلاً يحوّلها إلى حالة تُعرف بالتصبّن مع احتفاظها بكامل ملامحها الخارجية المدة نفسها أيضا.
الواقع والمفترض أمام ما يحدُث من كوارث فوق الأرض، وبسبب ما تقوم به الأرض نفسها من تحرّكات تؤثّر على حياة البشر فوقها، وتحوّلهم إلى قطع صغيرة من الشطرنج فوق رقعة مفتوحة تتلاعب بهم كيفما تشاء، هو أن هذه الكوارث بحاجة لدراساتٍ مستفيضةٍ وأبحاثٍ دؤوبة ومستمرّة لتجنّبها وتقليل مخاطرها ومنع حدوثها إن أمكن، وربما كان فيضان سدّي درنة في ليبيا، أخيرا، يشير، بكل صراحة ووضوح، إلى أن الفساد البشري السبب الأول في عدم القدرة على مواجهة مثل هذا الفيضان الذي تسبّبت به رياح عاتية وأمطار غزيرة أثّرت على أرض ذات طبيعة طينيّة لأنّ التحقيقات أشارت إلى أن هناك مبالغ مالية ضخمة قد رُصدت لترميم السدود، ولكن تمت سرقتها وبقيت السدود على حالها، ما أدّى إلى تلك المآسي التي شاهدناها، والتي لم يخلُ بلد من فقدان رعايا له فيها بسببها فأصاب حزن الفقد القريب والبعيد.
في الجانب الآخر من العالم، تعكف اليابان، بعلمائها ذوي العيون الضيّقة، والرؤوس المُفكّرة على تصميم منازل خاصة لمواجهة الزلازل تنفصل تلقائياً عند حدوث أي حركة في القشرة الأرضية، وتصبح عائمة في الجو، عن طريق مستشعر أسفل المبنى يضغط الهواء من خلال تقنية الرفع المغناطيسي، ما يعني نجاة سكان هذه المنازل من موت محقّق، فيما يقرأ أحدهم هذا الخبر ويهرش شعره الأشعث ويعقّب عليه بقوله إنهم لن يهربوا من أقدارهم، ويبدو أن تعليقه صحيح، ولكن ذلك لا يمنع من السعي والبحث عن حلول لمواجهة هذه الأرض الخرساء.