الأردن وأعراس الدم
لا توجد علاقة مباشرة بين مسرحية "عُرس الدم" للشاعر الإسباني ذائع الصيت فيديريكو غارثيا لوركا، وعُرس معان، وهو حفل زفافٍ لم يتم في مدينة معان (جنوبي الأردن)، لأن العريس قُتل برصاصٍ أطلقه أحد أصدقائه احتفالاً به، وليس بقصد قتله. ولكن ثمّة ما يجمع بين الحالتين، وهو الدم الذي سُفك بسبب سطوة التقاليد وتحكّمها أحياناً في حيوات أناس غادروا منذ زمن طويل تلك اللحظة والأسباب التي نشأت فيها ولأجلها هذا التقاليد.
قُتل لوركا نفسه على أيدي أتباع فرانكو في بداية الحرب الأهلية الإسبانية، وترك خلفه إرثاً أدبياً بديعاً، ومسرحيته "عرس الدم" (1933) من أهم أعماله التي طافت مسارح دولٍ عديدة، منها الأردن، حيث قدمها بمعالجةٍ معاصرةٍ لافتةٍ في مستواها المخرج خالد الطريفي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. على أن الشاعر القتيل لم تُقيّض له الفرصة ليعرف المدى الذي وصلت إليه شهرته، ولا أن إحدى مسرحياته عُرضت في الأردن، فقد قُتل قبل ذلك بكثير، كما أن عرض مسرحيته في عمّان وبيانات الأجهزة الأمنية المتكرّرة لم تردع بعض المواطنين هناك من مواصلة سفك الدم بلا أي معنى.
ويبدو الأمر مشحوناً بدراما عالية، خصوصا في حالة قاتل عريس معان، فهو أعزّ أصدقاء القتيل، فأي شعورٍ بالذنب سيظل ينتابه وينهش روحَه طوال حياته؟ أياً يكن الجواب، فإنه يظلّ قاتلاً، فالنيات الطيبة لا تسوّغ النتائج الوخيمة، والحبّ لا يبرّر الجريمة حتى لو كان دافعها الوحيد، وهو ما أكّد عليه ضمناً بيان غاضب وغير مسبوق أصدرته مديرية الأمن العام الأردنية التي توعّدت بإنزال أقصى العقوبات على القاتل متسائلةُ "بأي ذنب قُتل عريسنا".
وبحسب تصريحات نُشرت عام 2019 لوزير الداخلية الأردني الأسبق، سلامة حمّاد، هناك نحو عشرة ملايين قطعة سلاح غير مرخّصة في حوزة المواطنين، من بينها نحو ثلاثمئة ألف قطعة مرخّصة وفقاً لمصادر أخرى. وهذه أعداد كبيرة جداً في بلاد تُوصَف عن حقّ بأنها آمنة، وأن أجهزتها الأمنية قادرةٌ على حماية مواطنيها داخل الحدود وخارجها، نظراً إلى قوّتها واحترافيّتها العالية، وغياب أي تهديد حقيقي وكبير يستنزف جهودها على خلاف دول في الجوار. لكن ثقافة المجتمع، وبعضُه ما زال مشدوداً إلى تشكيلات ما قبل الدولة المعاصرة وتقاليدها، جعلت انتشار السلاح ظاهرةً تستحقّ التأمل الغاضب لغياب أي مبرّر لها.
وبالعودة إلى الأرقام والنسب، الأردن هو الرابع عربياً، بعد اليمن ولبنان والعراق، في صدارة انتشار السلاح بين أيدي مواطنيه، بحسب تقرير صدر عام 2017 عن مؤسّسة سمول أرمز سيرفي السويسرية. علماً أنه يمكن تفهّم انتشار السلاح في هذه الدول، بينما لا يمكن، في أي حال، تفسير هذا الانتشار المروّع للسلاح في الأردن أو تبريره أو الدفاع عنه، حيث يعتقد أن نحو 24% من مواطنيه يملكون أسلحة نارية وأوتوماتيكية.
ثمّة رخاوةٌ في معالجة أزمة السلاح بحسب بعض الآراء، وسببها مراعاة السلطات تقاليد المجتمع المحلي، ورهانها على التدرّج في سحب السلاح، وبالإقناع لا بالإكراه، في مقابل معارضة جزء من النخب ذلك، بزعم أن السلاح لا يُستخدم ضد الدولة، وأنه جزءٌ من هوية مواطني البلاد وثقافتها، وأن بعضه ضروريٌّ لحماية الممتلكات، كما في حالة مربّي المواشي أو أصحاب المزارع النائية، رغم أن القانون يسمح للأخيرين بترخيص السلاح لهذا الغرض، ما يؤكّد هشاشة هذه المرافعات. ويعضُد من هذا ما استجدّ على البلاد من حرب مخدّراتٍ شرسةٍ تُشن عليها من دول في الجوار، ونشوء مافيات لتهريب السلاح لهذا الغرض أو ذاك، ما يجعل من سحبه أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على الأمن الوطني، حتى لو استمرّت مرافعات المدافعين عن حيازته، وهم قلة في كل الأحوال، ولا أظن أن بمقدورهم الدفاع عن هذه الظاهرة واستفحالها وتأثيراتها البنيوية السالبة على البلاد والمواطنين، ومساهمتها في إنتاج عنفٍ مجتمعيٍّ متوحش من دون أسباب حقيقية له، ما دفع قبل نحو عشر سنوات نائباً في البرلمان إلى تهريب كلاشنكوف وإطلاق النار منه على أحد زملائه تحت قبّة مجلس النواب.
هذا عرس دم مجّاني وعبثي، لا يليق بلوركا ولا بالشاب حمزة الفناطسة الذي قضى نحبه في يوم زفافه.