حيازات عائلية ونسوة متسلّطات
لم يكن نيكولاي تشاوشيسكو مُجرَّد ديكتاتور متوحّش وحسب، بل زعيم بالغ الحيوية، منخرط في أكثر القضايا الدولية تعقيداً، من قضية الشرق الأوسط الكُبرى (القضية الفلسطينية) إلى العلاقات السوفييتية الأميركية. وقبل ذلك (وبعده) كان رجلاً أنيقاً، مُترفاً، على مزاج رفيع، إضافةً إلى عائليّته، إذ كانت "الرفيقة الركن" إيلينا تظهر دائماً في جواره، بشعره الفضّي الأشيب، كأنما وقعا في الحُبّ قبل دقائق ليس أكثر.
أطاحت الثورة تشاوشيسكو، وأُعدِم بعد محاكمة سريعة في عيد الميلاد عام 1989، ويقال إنه أعدم بالقرب من جدار أحد الحمّامات في ثكنةٍ للجيش الروماني. وصحيحُ أن كثيرين استحضروا الرجل بعد إطاحة بشّار الأسد السريعة والمفاجئة، على سبيل العظة بأن لا بقاء للديكتاتورية في العالم، إلا أن هؤلاء أغفلوا ما هو أكثر أهميةً، أن إعدام نيكولاي كان ختاماً غير رحيم للاتحاد السوفييتي، وأن ثمّة نظاماً في الشرق الأوسط كان يُفترض أن يلقى المصير نفسه، وهو نظام حافظ الأسد، الذي كانت تربطه علاقات دافئة بتشاوشيسكو، لكنّه تأخّر، ربّما لأسبابٍ لها علاقة بتعقيدات الوضع في المنطقة، ووجود إسرائيل فيها، ما جعل بعض الأنظمة "حاجةً" إسرائيليةً، وحصّنها بالتالي من عوامل التعرية والانهيار، لقيامها بدور حاسم في سياق آخر غير داخلي، يُديم بقاءها، حتى لو كانت ديناميات التغيير تتصاعد، ويُفترَض أن تنتهي بخلع هذا النظام.
سقط نظام بشّار الأسد (18 ديسمبر/ كانون الأول 2024) في 11 يوماً، وكانت الرحلة ما بين أول مظاهرات غاضبة على نظام تشاوشيسكو وإعدامه 11 يوماً، وفي ديسمبر أيضاً؛ وبينما كان إعدام الديكتاتور الروماني في ليلة عيد الميلاد، كانت ليلة سوداء وموحشة لبشّار، الذي وجد نفسه في موسكو، بينما كانت الكنائس في بلاده تحتفل للمرّة الأولى منذ نحو خمسة عقود في غياب أيّ حاكم من آل الأسد.
ثمّة نساء دائماً في مركز فساد هذا النوع من الحكّام، الذكاء في حالة الرئيس الروماني والبلاهة في حالة بشّار، والغرام بالخُطَب الطويلة، وشرح ما لا يحتاج إلى مُجرَّد الحديث عنه، وفي الجوار امرأة بشعر أشقر، متنفذّة ومهيمنة. يشبه الأمر عائلةً صغيرةً تحرص على صورتها، ويقال إنّهم عثروا على مجموعة ضخمة من الصور الخاصّة بالديكتاتور الروماني المخلوع، يبدو في أغلبها سعيداً، رجل بيت، أليفاً، ويكاد يكون أقرب إلى المفكّرين المتحدّرين من أرستقراطية آفلة. كانت إيلينا في جواره دائماً، وفي الصور التي بُثّت لمحاكمتهما، كان واضحاً أن إيلينا غاضبةً وتكاد لا تُصدّق، فمن هم هؤلاء الذين تجرّأوا على الثورة على أب رومانيا المعاصرة، بل على الأب والأمّ معاً؟
لم تُتَح لمتابعي فرار الديكتاتور السوري الصغير مشاهدةُ صورٍ حديثةٍ له ولعقيلته بينما هو يصعد الطائرة متوجّهاً إلى موسكو، ولا لها وهي تنتظره في باب الشقّة، لتبدأ بتقريعه، وربّما بكيل سيل من الشتائم للشعب الخائن الذي لا يعرف قيمة رئيسه المحبوب، ولكنّ الصورة في غياب "الفوتوغراف" تظلّ واضحةً، فثمّة رجل تقف إلى جواره امرأة بشعر أشقر، متسلّطة، وغاضبة، لأن شعباً من الرعاع خذل توقّعاتها في أن تحكمه من خلال الرفيقين نيكولاي أو بشّار، وأن عليه أن يشكر ويسجد (كي لا تقول ينحني) أمام هذه النعمة الإلهية.
في تصريحاتٍ لعبد الحليم خدّام، تعود إلى عام 2006، والرجل ليس مرجعيةً في الحرّيات العامّة، ولا عضواً في إحدى جمعيات مكافحة الفساد، تحدّث عن تحويل بشّار الحُكمَ في سورية نظاماً عائلياً، حيازةً أُسرية، وأن مصلحة هذه الأُسرة هي التي تقود النظام. وفي هذه أخطأ وأصاب، فحتى حافظ الأسد كان يُعلِي من شأن الأُسرة، وعينه كانت على توريث الحكم لنجله باسل، وليس لخدّام، لكنّه كان أكثر ذكاءً، وربّما أكثر قوة في دائرة الأُسرة من نجله بشّار، كما كان أكثر ذكاءً من نجله في إدارة علاقات الدولة الخارجية ما بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وما بين إيران ودول الخليج، لاعباً على التناقضات دائماً لصالحه.
كان بشّار فاشلاً، حتى أنه لم يكن ديكتاتورياً حقيقياً، كان جزّاراً وحسب، ودميةً في يد امرأة شقراء أقلّ اعتداداً بنفسها من إيلينا عقيلة الرفيق نيكولاي.