استيراد الصراع
يكثر في الأسابيع الأخيرة استعمال عبارة "استيراد الصراع" في الخطاب السياسي في فرنسا. والصراع المقصود، هو العربي ـ الإسرائيلي، على الرغم من أن تحديده فرنسياً، ينحصر باعتباره صراعاً بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل. وتقوم أجهزة الدولة، ممثّلة بوزير الداخلية جيرار دارمانان، الطامح مبكراً لانتخابات الرئاسة المقرّرة سنة 2027، بتكرار التحذيرات من هذا الاستيراد وربطه دائماً وحصرياً بأية رغبة نخبوية أو شعبية لاتخاذ موقفٍ من أعمال القصف الوحشي والتدمير المنهجي الذي يقوم به جيش "الدفاع" الإسرائيلي. ومهمة "الدفاع" هذه أُضيفت للغة السياسية الرسمية والإعلامية أخيراً، وصارت شبه إجبارية عند التطرّق لقوات الاحتلال، والتي كانت توصف على الأقل بالجيش الإسرائيلي.
وقد تركّز السعي إلى منع هذا "الاستيراد" من خلال الأوامر الإدارية الصادرة عن المرشّح الرئاسي دارمانان والمانعة أي تجمع مناهضٍ للحرب أو للتضامن مع غزّة وأهل غزّة. أما التجمّعات المؤيّدة للعملية العسكرية الإسرائيلية التي قتلت، حتى اللحظة، أكثر من عشرة آلاف مدني فلسطيني، فهي تعبيرٌ إنسانيٌ عن تضامنٍ أخلاقي مع ضحايا الإرهاب. وتبرير المنع أحادي التوجّه، والذي نقضه مجلس الدولة لعدم قانونيته، هو إيقاف السعي الجاري لنقل الصراع إلى المشهد الفرنسي، بحجّة أن الدولة الفرنسية تدافع عن السلم الأهلي، وتتجنّب كل أسباب التوتر المجتمعي، وتسعى إلى أن تكون شوارعها بعيدة عن أية محاولة للاستقطاب الخارجي، إضافة إلى الادّعاء شبه الساخر، الذي تُثبت الأفعال يومًا بعد الآخر عدم صحته، وهو أن فرنسا تعتبر نفسها على المسافة نفسها من أطراف هذا الصراع المستمرّ منذ عقود.
تصوّر للصراع يصبّ في إناء العنصرية المثقوب، والذي يحمله يمينيون متطرّفون ووسطيون، وبعض من اليسار التقليدي المنكفئ
من المستورد؟ ولماذا الاستيراد؟ وهل تُفرض رسومٌ على هذا الاستيراد أم أنه يجري تهريباً؟ وهي أسئلة مشروعة بدايةً فيما يتعلق بالسلع، أما فيما يتعلّق بقضايا إنسانية وأخلاقية، فلا حدود ولا جمارك ولا رسوم، مبدئياً، إلا أن وجود بعض الدهماء ممن يختارون معسكرهم ويتمسّكون به بعيداً عن أية مبادئ وقيم لطالما شنّفوا آذاننا بترديدها.
يُبرّر بعض علماء الاجتماع بأن الخطر يكمن في وجود أكبر جالية مسلمة وأكبر جالية يهودية في فرنسا على المستوى الأوروبي قاطبة. وبالتالي، هم يحصرون الصراع في شقٍّ دينيٍ يُناسب تحليلاتهم القائمة على نظرية صراع الحضارات، فكما يُصرّ كثيرون منهم على اعتبار أن الثقافة المؤسسة لبلاد الغال، وبعيداً عن أي منطق علمي وتاريخي، هي الثقافة المسيحية/ اليهودية، فسيصبح الصراع، بناءً على هذا المنطق، بين الإسلام والدولة الفرنسية. وعلى الرغم من أنهم يبتعدون نظرياً عن هذا الحصر، إلا أن افعالهم لا تُحيل إلا إليه، وبنسب متفاوتة. هذا التصوّر للصراع سيصبّ في إناء العنصرية المثقوب، والذي يحمله يمينيون متطرّفون ووسطيون، وبعض من اليسار التقليدي المنكفئ.
بعد عملية 7 أكتوبر، وما تلاها من حربٍ همجيةٍ على قطاع غزّة، سافر عشرات من الشباب الفرنسي اليهود، وبعلم وربما تشجيع من السلطات، للقتال إلى جانب جيش الاحتلال
توجّه أصابع الاتهام في المسؤولية عن هذا "الاستيراد"، وبشكل شبه رسمي، إلى حزب فرنسا الأبيّة. فقد صرّح وزير الداخلية دارمانان في لقاء متلفز أن "هناك مسؤولين سياسيين، وخصوصاً في أقصى اليسار، يرغبون في استيراد هذا الصراع، أو على الأقل، باستخدامه لغايات داخلية. وهذا استراتيجية انتخابية سيئة للغاية". وأمام هذا التصريح، يتساءل المتابع عن دقّة هذا التصويب تجاه هذا التوجّه اليساري. ومع مقبولية أن تسعى الأحزاب الى كسب الناخبين في فهم ألف باء الديمقراطية، يبقى أيضاً البعد الإنساني والقيمي الذي ميّز التزام أعضاء اليسار بقضايا تتجاوز حدود دولتهم الضيقة، وانهماكهم بمحاربة الظلم والاستبداد في كل الكون. فليس بحثاً عن أصوات فرنسيين أصلهم من تشيلي، وكانوا شبه غير موجودين أصلاً، وقف اليسار ضد الطغمة العسكرية التي انقلبت على الديمقراطية سنة 1973. وليس سعياً إلى كسب أصوات الفرنسيين من أصل فيتنامي، وكانوا محدودي العدد للغاية، اختار اليساريون موقفهم من حرب فيتنام. وعلى ذلك فقس. يُضاف إلى هذه الفئة يسار الكاثوليك الذي نجح في إنقاذ الرابط الإنساني بين الدين والأخلاق، وهو تيار مؤثّر في المشهد الفرنسي. كما بقايا الديغوليين الذين ما زالوا يحافظون على إرثٍ مرتبط بهذا الرجل، خصوصاً بعد نكسة 1967، وهم نادرون. ... وفي النهاية، إن تمت عملية الاستيراد كما يتخوّف بعضهم أم تأجّلت، أم اعتبر المسؤولون أن الوقوف الى جانب الحقّ هو عملية الاستيراد تهريباً لقضايا لا علاقة لبلدهم بها، يحقّ هنا الوقوف عند بعض الوقائع لمعرفة المتهم الحقيقي.
بعد عملية 7 أكتوبر، وما تلاها من حربٍ همجيةٍ على قطاع غزّة، سافر عشرات من الشباب الفرنسي اليهود، وبعلم وربما تشجيع من السلطات، للقتال إلى جانب جيش الاحتلال. وقد وضعت تصريحاتهم لوسائل الاعلام عن مهمتهم الوطنية (...) هذه، في أعلى الصفحات وفي مقدّمة النشرات. كما رفع وزير سابق ورئيس بلدية شبه دائم لمدينة الأغنياء من فرنسيين ومن مستجمّين عرب، مدينة نيس، علم إسرائيل على مبنى البلدية. وفي ترويجه خطوته الوطنية (...)، أضاف أنه لن يُنزله قبل تحقيق إسرائيل الانتصار. وفي حين يمكن أن نتابع تصريحات شديدة الانتقاد للسياسة الإسرائيلية ولعبثية الحرب ووحشية عملية الانتقام في الإعلام الإسرائيلي، إلا أن ذلك يُحيل صاحبه في فرنسا إلى ما لا تُحمد عقباه. وهنا يصبح دقيقاً التساؤل عمّن يستورد الصراع.