استعراض سياسي
تعتمد برامج سياسية عديدة ساخرة وجادة في القنوات الفضائية على تصريحات السياسيين، وهناك من يترصّدها بشكل دقيق على مدى سنوات، حتى غدت حلقات البرنامج أرشيفاً لهذه التصريحات الغريبة والمثيرة للسخرية، كما هو برنامج "البشير شو" الذي تنقّل بين عدّة قنوات وانتهى إلى البثّ حالياً على قناة DW العربية.
يفشل سياسيون عراقيون كثيرون، وبالذات الذين يتولون مناصب حسّاسة في الدولة، في السيطرة على أنفسهم أمام وسائل الإعلام، أو لا ينتبهون إلى كلامهم أو صورهم المعروضة على العامّة. وقد لا يدركون أن الصورة المعروضة في وسائل الإعلام باتت اليوم أكثر تأثيراً في إنتاج الصورة العامة عن السياسي وعمله، ومدى جدّيته أو كفاءته، مقارنةً بمستوى الإعلام والقدرة على ضبطه والسيطرة عليه في عقود سابقة، ما قبل عصر الانفتاح المعلوماتي والبثّ الفضائي ومواقع التواصل الاجتماعي وكاميرات الهواتف المحمولة التي تحوّل كل فرد، مهما كان وعيه، إلى قناة باثّة للأخبار والمعلومات والصور ومقاطع الفيديو.
من الأفضل، في واقع الحال، أن لا يظهر السياسي في وسائل الإعلام مطلقاً على أن يظهر بتصريح غريب يثير سخرية المتابعين. وعدم الظهور هذا استراتيجية يتّبعها كثيرون من نوّاب البرلمان، فلا يعرف أحد عنهم شيئاً، وقد يمرّون في الشوارع والأسواق من دون أن يتعرّف عليهم أحد، حتى انتهاء الدورة البرلمانية، لأنهم لا يظهرون في وسائل الإعلام مطلقاً، ويتهرّبون من أي تصريح.
وهؤلاء ربما لديهم نباهة وفطنة تجعلهم يعرفون أنهم غير قادرين على الإدلاء بتصريح مناسب، ولكن المشكلة مع السياسيين الذين يورّطون أنفسهم، ولا يعرفون أنهم غير مناسبين للمواجهة مع كاميرات وسائل الإعلام.
تغدو المشكلة أكثر تعقيداً حين يستجيب السياسي لنصائح مستشاريه، فيرسمون له خطّة محدّدة للحركة أو الإدلاء بتصريحاتٍ معيّنة، فلا تأتي بالتأثير المرجوّ منها، بل على العكس تتحوّل إلى نكتة في رأي الجمهور العام. كما حصل مثلاً مع تصريح رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، عشية دخول "داعش" مناطق الموصل في يونيو/ حزيران 2014، حيث قال؛ إنه سيحرّر الموصل خلال 24 ساعة. أو تصريح رئيس الوزراء اللاحق، حيدر العبادي، في مؤتمر صحافي في مقرّ حكومته، حين قال حانقاً وغاضباً إنه وجد خزينة الدولة (ورثها من سلفه نوري المالكي) خاوية، بسبب الهدر في المال العام الذي قام به "القائد الضرورة"، حسب تعبير العبادي، وفهم جميع المتابعين بأنه يقصد المالكي، وتعبير "القائد الضرورة" يأتي في التداول العراقي في سياق التهكّم، فهو أحد الالقاب التي أطلقها صدّام حسين على نفسه. وقد تراجع العبادي لاحقاً عن هذا التصريح، وقال إنه لم يكن يقصد المالكي، ولكن تصريحه الجديد أثار سخرية جديدة!
حدث الشيء نفسه مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في أكثر من مناسبة، بالإضافة إلى سياسيين آخرين يشغلون مقاعد نواب في البرلمان العراقي، وأشهرها، مثلاً، تصريح النائبة مها الدوري، عن الكتلة الصدرية، إن سبب تأخر إعمار مدينة الصدر مؤامرات إسرائيل! أو تصريح رئيس كتلة الفتح في البرلمان العراقي، هادي العامري، عشية انتخابات 2021 في مؤتمر انتخابي في محافظة ميسان الجنوبية، إن الأعداء لم يتركوا لنا فرصة لإعمار الجنوب خلال كل هذه السنوات، بسبب أننا (يقصد نفسه وتياره السياسي) من أتباع الحسين!
ظهر رئيس الوزراء الحالي، محمد شياع السوداني، في بداية تسنّمه منصبه في بهو مستشفى في الكاظمية ببغداد وهو يوبّخ نفسه، متألماً لحال المستشفى، فأثار سخرية المشاهدين. ثم ها هو في ظهور إعلامي له، أخيرا، يوبّخ مدير مطار بغداد على سوء حال الخدمات في المطار. وتلقّى المتابعون هذا المقطع بسخرية أكبر، لأنه ربما بسبب جيش المستشارين الذين عيّنهم، يصدّق إن مثل هذه "الحركات" ترفع من رصيده وشعبيته.
ليس المواطن الساخر إنساناً قاسياً، فهو يفهم أن السياسي، مهما كان، إنسان في النهاية، وقد يخطئ في التعبير أو تقدير تأثير صورته الإعلامية، ويمكن أن يغفر له ولا يسخر منه، إن كان لدى هذا السياسي منجزٌ حقيقي، ولكن هذا المواطن لا يملك غير السخرية، في أحيانٍ كثيرة، وهو يرى السياسي يستعرض عليه وسائل مستهلكة في الدعاية السياسية. ولا يبدو تراتب الأولويات هو ذاته عند السياسي والمواطن العادي، أو يستمرئ السياسي إطلاق الكلام الفارغ الذي لا تُقابله أية وقائع على الأرض. أو يظن أنه أذكى من الناس العاديين، ويستطيع استغفالهم بحركاتٍ استعراضية موروثة من حقب سابقة، حين كان الناس لا يرون سوى قناة تلفزيونية واحدة، ولا يقرأون سوى جريدة واحدة تصدرها حكومة بحزب واحد.