استبداد الفن وفن الاستبداد: الإمام الشافعي مثلًا
عندما تضع على لسان الإمام الشافعي أبياتًا من الشعر على أنها من إبداعاته، ثم يتبيّن أنّها لشاعر سوري نشرها قبل عشر سنوات فقط، فماذا تسمّي ذلك؟. سمّاه المراجع اللغوي لمسلسل "رسالة الإمام" خطأ لا يُغتفر، بينما يسميه القانون واقعة تزوير للتاريخ، فيما يمكن أن تعتبره، بمعيار النقد الفني المحايد، دليل رداءة درامية وركاكة في الصناعة، يهدم العمل كله ويثير الريبة.
الشاعر السوري، حذيفة العرجي، صاحب الملكية الفكرية لأبيات الشعر المنسوبة زورًا للإمام الشافعي اعتبر أنّ "ما حصل في المسلسل يدلّ على جهل فظيع لصنّاع العمل بهذا الإمام العظيم وبلغته الشعرية على وجه التحديد، ولك أن تتخيّل ما سيكون من كوارث أخرى، إذا كان تفصيلٌ بسيطٌ كهذا لم ينتبهوا له، إن أحدهم لم يكلّف نفسه تصفّح ديوان الشافعي للتأكّد من البيتين، وأشك أنهم قرأوا سيرته أصلا".
هل يعدّ ما سبق احتقارًا للفن أو هجومًا على الإبداع أو استهدافًا للدراما المصرية والعربية من مشاهدين متطرّفين ومستبدين يكرهون الإبداع ويحرّمون الفنون بإطلاق، ومن ثم وجب إبلاغ السلطات عنهم لضبطهم وإحضارهم وإيقافهم عند حدودهم؟. من أسف أنّ هذا ما حصل من "سيادة النقيب أشرف زكي" نقيب الممثلين في مصر، والذي يرى في كلّ نقد أو هجوم على دراما رمضان الواقعة في أخطاء كارثية استهدافًا للدولة المصرية وقواها الناعمة.
كنّا دائمًا مع حرية الإبداع والفكر، ضد تغوّل السلطات المستبدّة عليها، مستعينة بمن تُطلقهم ضد الأعمال الفنية والأدبية، فيما عرف باسم "قضايا الحسبة". وكنّا نظن أنّ حرية المتلقي، الذي هو القارئ والمشاهد، ينبغي أن تكون محلّ اعتبار هي الأخرى، لأنّ العلاقة بين المبدع (المنتج) والمتلقي (المستهلك) محكومةٌ بمعايير واضحة وبسيطة للغاية تحكُمها ذائقة المتلقّي الذي يحتفظ بحقوقه كاملة في الإقبال على ما يراه جيدًا ومعبّرًا وحقيقيًا وذا قيمة عنه والإحجام عمّا يجده رديئًا ومزيفًا وغثا، من دون أن يجد نفسه متّهمًا بالتطرّف والتآمر على الوطن والتربّص بالفن والإبداع.
ما الذي يدفع نقيب الممثلين المصريين إلى تبّني المنطق الأمني في التعامل مع مهاجمي المسلسلات، مهما كانت حدّتهم في الهجوم؟ فتّش عن الجهة التي تنتج هذه الأعمال وتفرضها دروسًا في التربية الوطنية على المشاهدين، إنها "المتحدة"، الشركة التابعة للجهات الأمنية (السيادية) التي فرضت هيمنتها على الإنتاج الدرامي والصحافي والتلفزيوني، في عودة إلى زمن التوجيه والإرشاد وفرض الحصار والوصاية الكامليْن على عقل المشاهد ووعيه، حتى وصلنا إلى مرحلة اعتبار الهجوم على مسلسل من إنتاجها هجومًا على الوطن نفسه، وهي اللوثة الوطنية الزائفة التي بدأت بمسلسل "الاختيار"، واستمرّت حتى طالت المسلسلات الدينية والتاريخية التي تقول الكلام نفسه، وتوصل الرسالة ذاتها المعبّأة في مسلسلات وأفلام "الجيش والشرطة والقائد والوطن".
الهجوم الحادّ، العنيف أحيانًا، على مسلسلات مثل "رسالة الإمام" و"سرّه الباتع" الحافلين بالأخطاء الدرامية والتاريخية لا يمكن اعتباره حملة من أفراد متطرّفين دينيًا، يحرّمون الفن ويكرهون الوطن، ذلك أنّ المعالجة السطحية استفزّت قطاعاتٍ لا يُستهان بها من المشاهدين، لا يمكن عقلًا تصوّر أنهم طلاب شهرة أو ناقصو الانتماء، كما أنه ليس تقييمًا للفن بمعايير دينية، كما تستسهل طائفة النقاد الوطنيين، إذ تدافع عن أعمال الدراما السيادية باللجوء إلى اللعبة السخيفة التي تحاول إظهار الدين مناقضًا للفن والأدب، وتصرخ مستغيثة من تغوّل رجال الدين والمتدينين على الفن، وتقول كما الناقد طارق الشناوي "يجب تنحية الدين جانبا عن الفن، لأنّ تعليمات الله أرقى وأعظم من الموضوعات والقضايا التي تتناولها السينما والدراما".
حسنًا، فليكن. ولكن في المقابل هل من الممكن أن يتواضع المشتغلون بالفن قليلًا ويتوقفوا عن التغوّل على الفتوى في الدين، وتناوله بمقاييس الفنانين والفنانات، ويتنحوا عن مسائل الجنة والنّار والبعث والحساب وعذاب القبر لمشيخة الأزهر مثلًا؟ هل تهدأ الصحافة السيادية وتتمهّل في نشر تصريحات فنانات الترند باعتبارها أخبارًا عظيمة لا تقبل التأجيل؟
في موضوع مسلسل "الإمام الشافعي"، أنت بصدد دراما عن الدين وأحد أئمته الكبار. وبالتالي، من المعيب أن ترى في تقييم رجال الدين له استبدادًا وتطرّفًا وإقحامًا للدين في قضايا الفن ... هذا تنطّع ممجوج.