ارتداد عن العلمانية
ظاهرة صعود اليمين المتطرّف اليوم، شرقا وغربا، ووصوله إلى مفاصل قيادة بعض الدول والمجتمعات، حاضرة في بعض من الدول والمجتمعات التي كانت تعدّ مجتمعات علمانية متقدّمة، يتمتع فيها الأفراد بقدر كافٍ من حرية التدين والاعتقاد والتفكير، ميّز هذه المجتمعات عن غيرها، باعتبارها تحترم التنوع والتعايش، وتقدّس حقوق الإنسان وحريته، باعتبارها أقدس مكتسب سياسي في عالم اليوم.
ولكن المفارقة أنه كيف انقلب كل ذلك التعدّد والتعايش إلى جحيم، مع صعود موجة اليمين المتطرّف في هذه المجتمعات، وذلك بتحوّل كثير من القيم والسلوكيات إلى قمع وحرمان من أبسط الحقوق السياسية والثقافية، وكل هذه اليوم مؤشّر واضح، ربما عن مرحلة جديدة تلوح في الأفق، مرحلة يضيق فيها هامش الحريات وتتراجع فيها كثير من القيم والشعارات المتعلقة بالحرية والحقوق المدنية والإنسانية للفرد والمجتمع، على حد سواء. فخلال هذه المرحلة، شوهدت أحداثٌ كثيرة تؤشّر، بما لا يدع مجالا للشك، إلى أن ثمّة تحولات كبيرة في بنية المجتمعات السياسية والثقافية، وخصوصا في الغرب الديمقراطي العلماني، الذي كان يقدّم نفسه واحة للديمقراطية والعلمانية معا التي لا ينافسه فيهما أحد.
وفجأةً، إذا بنا أمام حقائق مخيفة في هذا السياق، وخصوصا ما يتعلق بتضييق الخناق على المهاجرين في الغرب، حتى الذين أصبحوا مواطنين غربيين، باكتسابهم جنسيات هذه البلدان التي هاجروا إليها، بحثا عن حرياتهم وصونا لكراماتهم المسلوبة في بلادهم التي فرّوا منها، فإذا بهم يجدون أنفسهم، فجأة، أمام واقع جديد يهدّد حقوقهم وحرياتهم الدينية والثقافية المكفولة لهم دستوريا وقانونيا.
ما الذي يجري وما الذي تغير إذن؟ هل نحن أمام مرحلة جديدة، قد نشاهد فيها أفول العلمانية الغربية، التي كانت تمثل، إلى حدّ ما، نموذجا تعايشيا جاذبا لكثيرين من الفارّين من بلدانهم هربا من الاستبداد والظلم والقهر، فما الذي تغيّر وطرأ في الغرب العلماني، لتتراجع مجالات الحرية ومساحة الحقوق المدنية كلها بهذا الشكل المخيف الذي نشاهده اليوم في هذه المجتمعات.
تطرّف العلمانية الفرنسية ذو توجّه واحد فقط، وهو تطرّف تجاه كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين فحسب
ثمّة مؤشّراتٌ وأمثلةٌ كثيرة على هذا التحول الذي طرأ على هذه المجتمعات التي تعلي من قيم العلمانية، باعتبارها من ثوابت هذه المجتمعات، وأرقى نماذج الأنظمة التي وجدت وناضلت من أجلها شعوب هذه البلدان طويلا، لتصل إلى هذا النظام العلماني الديمقراطي الليبرالي. ولا يقتصر الأمر اليوم على بعض نماذج في الغرب الديمقراطي العلماني، وإنما يمتد حتى إلى المجتمعات الشرقية "العلمانية" والمتعدّدة ثقافيا ودينيا ولغويا أيضا، كالمجتمعَين الصيني والهندي. وقد كانت الهند تُقدّم، على مدى عقود، أنها أكبر نظام علماني في العالم، وأنها قدّمت صورة أكثر من جيدة للتطبيقات العلمانية وتمثّلاتها المشرقية.
على مدى الأعوام القليلة الماضية، ظهرت إشكالاتٌ كثيرة في مجتمعات عدة، كفرنسا واحة الأنوار والعلمانية اللائكية، وحقوق الإنسان، بلد روح الشرائع وفولتير وروسّو ومونتسكيو إلى السويد، بلد التنمية والأمن والأمان، بلد الرفاة والتقدّم والضمان الاجتماعي الأفضل في العالم، مرورا حتى بالمجتمعات العلمانية الأكثر تسامحا كالعلمانية البريطانية والأميركية. في هذه كلها، يُلاحظ أن ثمة نقاشات عدة وتحولات مهمة في هذا السياق، تتعلق بإعادة النظر في منظومة القوانين والتشريعات المتعلقة بالهجرة والجنسية، وهي قضايا جوهرية وفي صلب منظومة حقوق الإنسان وفلسفتها التي تقوم عليها أساسا الفلسفة العلمانية الغربية عموما.
فقد يتفهم بعضهم تطرّف العلمانية الفرنسية، باعتبارها نموذجا، خصوصا أنه يرتكز على فكرة اللائكية المتطرّفة، باعتبارها (العلمانية الفرنسية) صلبة، لا حياد لها تجاه المسألة الدينية. ولهذا قد يقبل بعضهم ذلك باعتبارها نموذجا متطرّفا منذ البداية. ولكن حتى هذا التفسير أيضا يسقط أمام حقائق مذهلة، بالنظر إلى أن تطرّف العلمانية الفرنسية ذو توجّه واحد فقط، وهو تطرّف تجاه كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين فحسب، فيما تقف هذه الدولة العلمانية موقفا مساندا للمسيحية واليهودية. ففي تصريحات جديدة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أمام ناشطين مسيحيين عرب، 2 فبراير/شباط الجاري، قال: "إن دعم مسيحيي الشرق هو التزام علماني لفرنسا ومهمة تاريخية". ويقول ماكرون هذا في وقتٍ أغلقت الحكومة الفرنسية عشرات ومئات المساجد والمدارس والجمعيات الإسلامية الفرنسية في باريس وغيرها على مدى سنوات، ما يضعنا أمام تناقضٍ فاضحٍ واختلالٍ كليٍّ لمعايير العلمانية الفرنسية التي يُفترض أنها لا تدعم أي طرف ديني، بحسب زعمهم.
ثمّة ارتداد حقيقي وكبير عن قيم الحرية والتسامح والعيش المشترك، الذي يتمتع به المجتمع السويدي كمجتمع علماني ديمقراطي
هذا عن فرنسا الأنوار. أما عن السويد بلد الهدوء والأمان، والحرية المطلقة، فما يجري فيها، أخيرا، من احتجاجات كبيرة من المهاجرين الذين غدوا مواطنين سويديين، مطالِبين باستعادة أطفالهم الذين صادرتهم مؤسسة السوسيال السويدية الحكومية الرسمية، بحجّة عدم أمانهم لدى أسرهم، في واحدةٍ من أبشع جرائم التفريق بين الأطفال وذويهم، وبذريعة قانونية قائمة، تجرّد الوالدين من أطفالهما بحجج واهية وسخيفة، لا تستقيم مع أبسط قواعد المنطق الإنساني مطلقا، الذي يقول إن الوالدين هما أحنّ الناس على أطفالهما.
ما يجري في السويد تكشفت خلفياته أخيرا، من نشطاء سويديين، وقفوا إلى جانب اللاجئين الذين يجري تجريدهم من أطفالهم. وكشف بعضهم أن مؤسسة السوسيال ترتكب جرائم مشينة بحق الأطفال الذين يتلقون تربيتهم في هذه المؤسسة، حيث يجري تجريدهم من قيمهم وهوياتهم الثقافية والدينية، بتنشئتهم بعيدا عن آبائهم وأمهاتهم. ويقول ناشطون في هذه الاحتجاجات إن ثمّة توجّها فعليا في السويد لتجريد الجيل الجديد من المهاجرين من قيمهم وهوياتهم الدينية والثقافية قسرا، تحت مبرّر عدم كفاءة آبائهم لتربيتهم، وبمبرّر أهمية الاندماج القسري لهؤلاء الأطفال الذين يجري سلبهم من أسرهم وحرمان أسرهم منهم فترات طويلة، قد تصل إلى عشر سنوات متواصلة، يمنع خلالها حتى من الزيارة والتواصل.
لا تفسير لمثل هذه السياسات الجديدة سوى أن ثمّة ارتدادا حقيقيا وكبيرا عن قيم الحرية والتسامح والعيش المشترك، الذي يتمتع به المجتمع السويدي كمجتمع علماني ديمقراطي، وأن ثمة تراجعا كبيرا في مصفوفة القيم العلمانية التي تحترم حقوق الإنسان وتمنحه كامل حقوقه الدينية والمدنية والثقافية، وأن ما تقوم به مؤسسة السوسيال يأتي مؤشّرا على هذا التراجع الكبير عن القيم العلمانية لهذه المجتمعات. أما عن العلمانية المشرقية في الهند، فمع صعود حزب بهاراتا جاناتا، اليميني الهندوسي المتطرّف، الذي يمثل اليمين القومي الهندوسي، في العام 2016، والهند تشهد تراجعا كبيرا، على المستويات كافة، من تراجع الهامش الديمقراطي، والحقوقي والأكاديمي، فقد طاولت الاعتقالات ناشطين كثيرين، مسلمين وبعض المسيحيين الهنود، كالقس ستان سوامي والأكاديمي هاني بابو، وغيرهما مئات من الناشطين الهنود المناهضين للظلم والتهميش والتمييز.
التراجع المخيف اليوم يضع أمامنا أسئلة وعلامات استفهام عدّة، بشأن مصير العلمانية اليوم في هذه المجتمعات
ليس هذا فحسب، فما جرى في ولاية آسام شمال شرق الهند، أخيرا، من صياغة قانون جديد يحرم المسلمين من أصول بنغالية وباكستانية وأفغانية ممن قدم آباؤهم وأجدادهم إلى هذه الولاية منذ ربما قرون، من نيل الجنسية الهندية، فيما سُمح لكل الهندوس والمسيحيين والبوذيين، من نيل الجنسية الهندية، في ازدواجية معايير واضحة، في تعديلٍ دستوري، يُعدّ مسرحية هزلية تتعارض مع أبسط قواعد الدستور الهندي العلماني.
وفي بلدان العلمانية المتسامحة والمتصالحة مع الأديان والمذاهب والملل والنحل، في بريطانيا، بدأت نقاشات عدة وفي فترات متباعدة، في أروقة البرلمان وغيره من دوائر صناعة القرار البريطاني، تصبّ كلها في صالح إعادة النظر في قانون الجنسية البريطاني والحدود، وذلك لإصدار تشريعات جديدة تتعلق بسحب الجنسية وحرمان اللاجئين الذين دخلوا بطريقة غير مشروعة من الحصول على الجنسية، عدا عن منح حرّاس الحدود حصانة من أي مساءلة في حال توفي مهاجر بين أيديهم، وتجريم كل من يحاول مساعدة اللاجئين في بريطانيا، عدا عن سحب الجنسية، حتى من دون إبلاغ صاحبها بذلك، باعتبار الجنسية امتيازا وليس حقا.
ختاماً، كل هذه التحولات في عالم اليوم مؤشّرات خطيرة، وواضح أننا أمام مرحلة جديدة، مختلفة جدا عما قبلها، فيما يتعلق بتحوّلات عميقة في بنية المجتمعات الثقافية والسياسية، تتعلق بتخلّي هذه الحكومات، عن مكتسبات قانونية وتشريعية، بل وتنكّرها لهذه المكتسبات التي حققتها مجتمعاتها خلال العقود الماضية، وكانت تعدّ نصرا للإنسانية جمعاء، باعتبارها ضمانة للحقوق والحريات، هذا التراجع المخيف اليوم يضع أمامنا أسئلة وعلامات استفهام عدّة، بشأن مصير العلمانية اليوم في هذه المجتمعات، وهل سنشهد أفول العلمانية، أم هي مجرّد مرحلة تطرّف عابرة، سيتجاوزها العالم حتما، ولن تعود به قروناً إلى الوراء؟