"ادفع دولاراً تقتل عربياً"
وراء عنوان هذا الكتاب حكاية يرويها مؤلفه الأميركي، الصحافي والباحث في المعهد الآسيوي في نيويورك، لويس غريزوولد، الذي عاش زمن الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى عام 1948 التي أدّت إلى النكبة. يقول إن الواقعة التي أثّرت في نفسه آنذاك "أكثر ما يكون التأثير" أنه شاهد في زوايا شوارع مدينة مانهاتن في ولاية نيويورك، حيث كان يقيم، "مكبّرات الصوت، وقد نصبت على السيارات الكبيرة أو على المنابر، وراحت تخور متوسّلة إلى الأميركيين أن يعطوا دولاراً ليقتلوا عربياً. كان صوت إسرائيل قوياً جداً في الولايات الأميركية، أما صوت بلاد العرب فكان صامتاً، وكانت الأنباء والتعليقات الخاصة بحرب فلسطين متحيّزة تحيّزاً كاملاً "لصالح اليهود".
وعندما اطّلع غريزوولد على إعلان يفيد بأنه "كلما قتلت عصابة شتيرن في فلسطين عربياً أقام اليهود عيداً صغيراً في قلوبهم" طفح الكيل عنده، كما يقول، ولم يعُد يطيق صبراً. ولذلك قرّر السفر إلى الشرق الأوسط، كي ينقل إلى الأميركيين والعالم حقيقة ما يجري هناك. وسافر، كما يقول، وهو لا يكاد يعرف من الأحداث التفصيلية التي أدّت إلى اندلاع نار الحرب بين إسرائيل والدول العربية إلا قليلاً، و"فيما عدا القباحة المثيرة التي يكشف عنها الخطباء اليهود في زوايا شوارع نيويورك لم تكن تعتمل في نفسي عصبيّة خاصة".
وفّرت السفينة البطيئة، كما يصفها غريزوولد في رحلتها إلى الشرق الأوسط، الوقت له، كي يراجع ويتأمل تاريخ وجغرافية المنطقة التي هو في طريقه إليها، مستذكراً ما أورده الكتاب المقدّس عن "جنة عدن التي تحدها أربعة أنهار، هي الفرات ودجلة والنيل، ونهر رابع لا يزال مستعصياً على التحديد". ومستعيداً نقاط الإثارة والقوة في هذه المنطقة منذ نشوء المدن السومرية الزاهرة والغنية فيها حتى يصل إلى حقيقة "أن دعوى الصهيونيين بأن ذلك القطر (فلسطين) إنما تستند إلى عهد شفهي خرافي يزعم أن يهوه أعطاه لموسى (...)، وأن تاريخ فلسطين القديم ينصّ، بوضوح لا يحتمل اللبس، على أنه ليس في فلسطين أيّ آثار يهودية ترجع إلى ما قبل العهد الروماني، وأن الزعم أن حائط المبكى بقية من هيكل سليمان، زعم باطل، وأن المسجد الأقصى وقبّة الصخرة وقبّة السلسلة هي وحدها بين آثار فلسطين التي ترقى إلى ما قبل الاحتلال الصليبي للبلاد". واستناداً إلى تلك السرديات المختلقة، حاول اليهود في العصر الحديث إنشاء مستعمرة خاصة بهم في أكثر من مكان من العالم، في كندا، وفي جنوب أفريقيا، وفي جزيرة سورينام الهولندية، وفي غويانا في أميركا الجنوبية، وفي جزيرة في نهر نياغارا في أميركا الشمالية، لكنهم لم يفلحوا.
أبواب الهجرة فتحت أمام يهود العالم لاستيطانهم في فلسطين بمخطّط مدبّر
يعرض الكاتب هنا كيف أن يهودياً نمساوياً اسمه ثيودور هيرتزل قد ابتدع "الفكرة الصهيونية"، مستعيداً ما ذكره أسلافه عن حق مزعوم لليهود في أرض فلسطين، وجاءت رسالة آرثر بلفور رئيس الوزراء البريطاني في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 لتكون المنطلق للكارثة التي حلّت بأهل فلسطين. وفي حينها لم يكن فيها أكثر من خمسة آلاف يهودي، لكن أبواب الهجرة فتحت أمام يهود العالم لاستيطانهم في فلسطين بمخطّط مدبّر. وفي حينه، شُكِّلَت عصابات شتيرن وأرغون من اليهود القادمين، التي مارست إرهاباً وضغوطاً شتّى على السكّان العرب بهدف إخراجهم من أرضهم وإحلال جموع اليهود القادمين من أوروبا محلّهم. وقد لعبت السياسات البريطانية في المنطقة في عشرينيات القرن وثلاثينياته دورها في تكريس المزاعم الصهيونية وبلورتها، رغم تعاظم المقاومة العربية للمشاريع الصهيونية وسعيها لضمان إقامة دولة عربية في فلسطين.
ينقل غريزوولد ما شاهده في رحلته إلى المنطقة، وكيف أن "الراديو اليهودي كان يتباهى بتدمير القرى العربية، وذبْح سكانها ذبحاً جماعياً، (..) وأن هذه المجازر لم تكن عفوية، ولكن مبيتة ومدروسة"، ففي دير ياسين مثلاً "أقدمت عصابة الأرغون على ارتكاب مذبحة رهيبة لا أحد يعرف عدد ضحاياها". وفي واحدة من الوقائع "جمع الغزاة خمسة وعشرين امرأة حاملاً، ووضعوهنّ في صفٍّ طويلٍ، ثم أطلقوا عليهن النار، وبقروا بطونهنّ، وقطّعوا الأطفال إرباً إرباً أمام آبائهم، وانتُزعت الحليّ والخواتم من أجساد القتلى، وبُترت أصابع الضحايا الذين صعب انتزاع خواتمهم"!
ومع توثيق مثل هذه المشاهد المأساوية ونقلها إلى العالم، يخلص الكاتب إلى أن ما جرى من وقائع وتداعيات في الحرب العربية الإسرائيلية يؤكّد "أن إسرائيل سرطان أُقحم ظلماً وعدواناً إلى الشرق الأوسط، لكنها لا تستطيع أن تحيا إلى ما لا نهاية على حساب جيرانها، ولا بد لها من أن تموت آخر الأمر، ما دامت لا تمتلك في ذاتها مقوّمات الحياة، وإذا ما سمح لها بالبقاء على قيد الحياة سيكون ذلك أعجوبة شرّيرة".
أحدث كتاب "ادفع دولاراً تقتل عربياً" ضجّة كبيرة عند نشره في الولايات المتحدة في حينه (ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 2000)، وقد عملت المنظّمات الصهيونية في أميركا على جمع نسخ الكتاب من المكتبات وإتلافها.