اختطاف السوريين العلويين وحتمية العودة
الجليّ أنّ مستقبل نظام الأسد بات اليوم في حكم المنتهي بعد انتفاضة الجنوب السوري مدعوماً بتأييد مدن عدّة، لا تُستثنى منها إدلب، بينما لا يزال صمت السوريين من الطائفة العلوية لغزاً مثيراً للجدل، ربما نتيجة الغموض والتشويش المتعمّد الذي غلّف صورتها تاريخياً، في حين أدّت الفلسفة الباطنية لديها إلى اعتماد مبدأ التقيّة حتى في تفكيرها وتحركاتها، كذلك أحلامها وآمالها. وتذهب تصوّرات مبنية على وقائع جمّة إلى أنّ شكل الوجود الاجتماعي للعلويين ومكوّنات هويتهم الاقتصادية والسياسية، هذا كله، وليس مذهبهم الباطني فقط، هو ما جعل منهم فئة منفصلة نسبياً عن المجتمع السوري، معزولة عنه ومعادية له بقوة الواقع، طبعاً بتكريسٍ ودفعٍ تكفّل بهما نظام الأسد الذي جعلهم، وللمفارقة، يطمئنون إلى سلطة ديكتاتورية بنخبة علوية أكثر مما يطمئنون إلى سلطة علمانية ديمقراطية لا يسيطر عليها علويون! وعبر عقود خمسة، وعلى مستوى الهوية والفعل السياسي، تحوّلت الطائفة العلوية من وظيفة كائنةٍ بالقوة إلى وظيفة قائمةٍ بالفعل، تتفاعل على أرضية متنضّدة ومتزامنة من الودّ والعداء مع بقية السوريين.
هذا التحوّل، الذي تكشّف في محصلته عن تلك الثمرة السامّة للقاء التاريخي المشؤوم بين الطائفة "المغمورة" المنبوذة ونظامٍ مجرم، جعل العلاقة ما بين أكثرية "سنّية" وأقلية "علوية" تتطوّر تدريجياً من علاقة كامنة إلى علاقة عدائية بصورةٍ علنية وإقصائية إبّان الثورة السورية، والجواب النمطي حاضر بين الموالين: "نحن مع الثورة، ولكن هذه ليست ثورة، نحن مع التغيير إلى الأفضل وليس مع تدمير الدولة بإرادة الخارج المتآمر!"...إلخ. ورغم أنّ معظم العلويين بات يتقبل فكرة التبرؤ من الأسد الذي اتّبع وصية مؤسس عائلة روتشيلد لأبنائه: "إن لم تستطيعوا جعل الناس يحبونكم فاجعلوهم يهابونكم"، إلا أنهم ما زالوا مرغمين على تأييد النظام باعتباره ضرورة وجودية، هم المشبعين برؤى سامّة من قبيل إنّ الأغلبية محمّلة بأحقاد الانتقام، وعلى أقل تقدير سيعيدونهم عبيداً في البيوت والقصور، وفق ما تردّده أبواق مؤيدة للنظام.
تعمّقت الأزمة الوطنية في سورية على قدر نجاح الطبقة الحاكمة في فكّ الرابطة العضوية بين الطائفة العلوية والمجتمع، وتحويل الأولى إلى أداة لقهر الثاني
في السياق، يبدو أنّ تفاعل العلويين المزدوج والمتناقض مع النظام الحاكم من جهة ومع المجتمع من جهة أخرى أنتج كل أشكال سوء الفهم المكرّس الذي طبع النقاش العام عن علاقة الأسد نفسه بالعلويين، في غيابٍ مؤثّر لجسر الثقة الذي سيعبر عليه الجميع إلى ضفة الخلاص. على هذا، يمكن القول إنّ الصيغ السياسية المتنوّعة التي تسعى إلى إسباغ العلمانية على الموقف العلوي الموالي، ليست سوى تغليف حضاري للرعب القابع في الذاكرة الجمعية من خطر العودة إلى حقبة التهميش، المدعومة بالمظلوميّة التاريخية التي عزّزت عندهم صوابية أخلاقية يفتقدونها في علاقتهم مع سلطة الاستبداد. هكذا فقدوا، مع الوقت، القدرة على الانفكاك عن نظام الأسد، بعدما حوّلهم إلى مطحنة بشرية لفرم شركائهم في الوطن، فشكلوا ما يشبه الاحتياطي المضمون للآلة العنفية، بينما لم تحمل لهم الحرب الجهنمية سوى إضافاتٍ ذات طابع دموي من جهة، وموجات تذمر تصاعدت ضد النظام من جهة أخرى، ولكنه تذمر ضمن مفهوم "خلاف الحلفاء" في الخندق الواحد، فلا يهم إن غدت سورية دولةً من دون شعب أو شعباً من دون دولة، بحسب تعبير عالم السياسة البلجيكي توماس بيريه، طالما هم في دائرة الأمان.
تجدر الإشارة إلى أنه، وبينما يقود الحراك الشعبي في مدينة السويداء شيوخ العقل لطائفة الموحّدين الدروز، يأتي الناشط السوري كمال رستم ليفضح تفاصيل الاجتماع السرّي الذي عُقد في القرداحة بين بشار الأسد ومشايخ علويين، آمراً إياهم بكبت أيّ صوت في المنطقة، كي لا تستغله المعارضة الخارجية والخونة، على حدّ تعبيره. مذكّراً، وبصفاقة مستفزّة، بأنه هو ووالده من حميا الطائفة، في محاولةٍ وضيعةٍ لتوريطها في حمام دم جديد لن يوفر أحداً على الإطلاق. ويبدو أنّ الأمور لن تسير وفق خطة الأسد كما تجري العادة، إذ كسرت سلسلة تسجيلات مصوّرة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي حالة الصمت التي لطالما خيّمت على مناطق الساحل السوري، وشاعت عبارات صادمة لناشطين علويين تحدّوا، بشكل مباشر، رأس الهرم في سابقةٍ أدهشت الجميع، من قبيل: "روح بلّط البحر... البلد قامت لتخلعك.. الأسد منافق وكذاب... وجبةُ العبد الأخيرة لحمُ سيّده". في المقابل، ورغم فداحة تأثير الأزمة على السوريين وطول مدّتها، من الملاحظ ضعف دور رجال الدين العلويين، إلى درجة أنّ عقداً كاملاً مضى من دون أن تسجل السردية السورية الراهنة اسماً واحداً لامعاً فيها من هؤلاء، سلباً أو إيجاباً.
تشكّل عودة العلويين "المختَطفين" إلى المجتمع السوري جوهر العملية الإصلاحية المطلوبة
ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى أنّ نظام الأسد نجح في زيادة غربة العلويين عن مجتمعهم، ليبقوا مرتهنين أزليين للمقدّسات الأسدية الراسخة بقوة البوط العسكري، في وقتٍ لم تشكّل المعارضة، تلك التي لم تحمل مشروعاً وطنيّاً جامعاً، عاملاً جاذباً للعلويين، بل كانت تشتغل على إدانة النظام وتخوين مواليه. هكذا تعمّقت الأزمة الوطنية على قدر نجاح الطبقة الحاكمة في فكّ الرابطة العضوية بين الطائفة العلوية والمجتمع، وتحويل الأولى إلى أداة لقهر الثاني، وإخضاعه لإرادة طبقة خاصة، من دون أيّ توسط عقيدي أو سياسي يساعد على إخفاء علاقة الاستتباع الجديدة. مع هذا، من المهم الابتعاد عن لغة التعميم الممنهجة ضد العلويين، وإيضاح جملة أفكار لفهم دلالات غيابهم عن الحياة السياسية، لعلّ أهمها قمع النظام العنيف لهم قياساً بالطوائف الأخرى، ولاحقاً انحراف "انتفاضة المواطنة" عن مسارها وتحوّلها لثورة إسلامية مسلحة رأت في العلويين عدوّها الأول، وهذا كله لاستيعاب واقع أنّ "التململ العلوي" اليوم لم يأخذ طابعاً منظماً أو مؤثراً بعد، لافتقاده إلى قيادات وطنية تطمئنه، وتحوله من مجرّد حركةٍ يسارية ناعمة، ليس لها أيّ حامل على الأرض، إلى انفجار مدوّ وحده سيغير قواعد اللعبة.
مع هذا، ثمّة بوادر تؤكّد قرب انضمام العلويين إلى الحراك الشعبي، آجلاً أم عاجلاً، إذ ما أشبه اليوم بالأمس بعد ظهور حركة "العاشر من آب" وغيرها من التحرّكات المبشرة. ولنتذكّر، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، تحمّس عشرات من الشبّان المنتمين بشكل أساسي لرابطة العمل الشيوعي، وعملوا على توزيع المنشورات المناهضة لنظام الأسد الأب، وضمنها صحيفة الحزب (الراية)، عبر رميها في المنازل، ولصق الشعارات على الجدران، لتنتهي حالة التمرّد تلك بحملة واسعة شنّتها أجهزة المخابرات، وأسفرت عن اعتقال عشرات من أبناء الساحل. المعطيات الراهنة مختلفة بالتأكيد، وعليه تشكّل عودة العلويين "المختَطفين" إلى المجتمع السوري جوهر العملية الإصلاحية المطلوبة، رغم أنهم شكلوا العصبية المتحكّمة بمصائر الدولة والمجتمع بحسب نظرية ابن خلدون في قيام الدول وسقوطها. نافل القول، قد يبدو مشهداً غرائبياً في "سورية الأسد" تحرّكُ العلويين ضد "سيدهم" المقدّس، لكنه، قطعاً، سيكون بداية إعلان اندحار الدولة العائلية المستبدّة، بعدما عجزت عن تلبية أبسط مقوّمات العيش لموالين يعيشون في "سورية المفيدة" سمعوا بالنصر العسكري ولم يشهدوا غنائمه رغم التضحيات الجسام. تحرّكٌ أشبه بالغوص في عمق الجرح الوطني السوري في مسعى إلى التطهير، والتمهيد لالتئامٍ سليم ومأمول، بينما يكتبون على جبين التاريخ مجدّداً: "وجبةُ العبد الأخيرة... لحمُ سيده".