اجتماع العقبة ... مراوحة السلطة في المكان والمسار
بدا الاجتماع الذي التأم في العقبة (جنوبيّ الأردن)، في 26 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) أمنياً بامتياز، حتى مع محاولة إعطائه طابعاً أو إطاراً سياسياً مصطنعاً. وكانت أميركا عرّابة الفكرة والتنفيذ بانخراط عربي (مصري – أردني) وترحيب إسرائيلي، بينما بدت السلطة الفلسطينية مضطرّة إلى المشاركة، لا لأنها ترفض الفكرة بحدّ ذاتها، لكن لكونها تعي حجم الممانعة الشعبية للاجتماع، كما لانعدام الأمال في الخروج بأي نتائج جدّية، حتى في السياق الأمني، فضلاً عن تحقيق وهم الأفق السياسي الذي تتحدّث عنه السلطة دائماً.
إذاً، من حيث الشكل، بدت الهندسة الأميركية للاجتماع من الألف إلى الياء واضحة تماماً، شكلاً ومضموناً، مشاركين وأجندة، مع حضور بريث ماكغورك، مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي لإدارة الرئيس جو بايدن، المنسق السابق للتحالف الأميركي لمحاربة داعش في إدارة باراك أوباما، إضافة إلى كبيرة مساعدي وزير الخارجية والمعنية بالملف الفلسطيني، بربارا ليف، بينما بدا لافتاً غياب مسؤول الشؤون الفلسطينية في الخارجية الأميركية، هادي عمرو، ربما لعدم إغضاب الإسرائيليين المعترضين على المسمّى والدور الخاص به. وفي الشكل أيضاً، بدا الحضور الأمني طاغياً على الوفد الإسرائيلي الذي ضمّ ثلة من الجنرالات المعنيين مباشرة بالملف الفلسطيني، منهم رئيس الشاباك رونين بار، ومنسق شؤون الاحتلال غسان عليان، ورئيس القسم السياسي والأمني في وزارة الدفاع درور شالوم، مع حضور لافت لرونين ليفي، المسؤول الكبير السابق في جهاز الموساد ومهندس اتصالات التطبيع مع الدول العربية والمدير العام لوزارة الخارجية حالياً ضمن عسكرة كاملة أمنية استخباراتية لها. ولم يكن مفاجئاً أن يترأس الوفد مسؤول مجلس الأمن القومي، أحد أبرز أذرع ومساعدي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومساعديه المقرّبين، وهو نجل غيئولا كوهين، إحدى رموز التطرّف عبر التاريخ، والتي يمكن اعتبار الوزيرين في الحكومة، بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير، من ورثة خطّها السياسي الصهيوني المتطرف.
حاولت عمّان المُحرجة من استضافة القمّة "الأمنية" في ظل ممارسات الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرّفاً إعطاء طابع سياسي لها
في المقابل، بدا الوفد الفلسطيني، رغم التذاكي أمنياً، أيضاً في تساوق صريح مع الأجندة الفعلية للقمة الأمنية، بحضور حسين الشيخ بصفته مسؤول التنسيق والاتصالات مع إسرائيل، ومدير المخابرات ماجد فرج. أما حضور مجدي الخالدي، مستشار الرئيس محمود عبّاس، فلا يهدف فقط إلى إعطاء طابع سياسي للوفد، ولكن لعدم ثقة عبّاس بالآخرين، ورغبته في الاطلاع مباشرة على المجريات، علماً أنه (الخالدي) يحضر بانتظام كذلك لقاءات حسين الشيخ مع كبار الزوار الأميركيين والأجانب في رام الله.
ولم يشعر النظام المصري بالإحراج، ولم يرَ حاجة لوجود أي مسؤول سياسي منه للتغطية على الطابع الأمني للاجتماع، حيث ترأس وفده رئيس جهاز المخابرات العامة عبّاس كامل برفقة مساعديه المعنيين بالملف ضمن رؤية النظام العسكري للقضية الفلسطينية من الزاوية المخابراتية البحتة، ليس فقط تجاه غزّة، بل أيضاً الضفة الغربية أيضاً. وفي السياق المصري، يطرح السؤال عن أسباب عقد القمة الأمنية في العقبة، لا شرم الشيخ، كما جرت العادة تاريخياً، وذلك عائد إلى أن الوساطة المصرية مقتصرة على غزّة، حيث الوضع هناك هادئ وتحت السيطرة، بينما الخشية من الانفجار في القدس والمقدّسات الخاضعة أو المفترض أنها خاضعة لوصاية النظام الأردني والضفة الغربية بشكل عام، حيث التماس السياسي والجغرافي والجماهيري مع الأردن.
وعليه، حاولت عمّان المُحرجة من استضافة القمة "الأمنية" في ظل ممارسات الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرّفاً إعطاء طابع سياسي لها عبر ترؤس وزير الخارجية أيمن الصفدي الوفد برفقة مدير دائرة المخابرات العامة، أحمد حسني، علماً أنه لعوامل تاريخية وجغرافية وسياسية، لا تجري إدارة القضية الفلسطينية من الزاوية الأمنية فقط، حتى مع الحضور الاستخباراتي اللافت فيها. وجاء استقبال ملك الأردن، عبد الله الثاني، المشاركين في الاجتماع أيضاً بغرض إعطائه إطاراً سياسياً، بما يعاكس حتى التصريحات عن الأهداف وأجندة اللقاء نفسه، لجهة التهدئة ونزع فتيل الانفجار، تحديداً في المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف، خصوصاً قبل شهر رمضان الكريم.
الإشارة الوحيدة إلى القوّة في السياق الفلسطيني في اتفاق أوسلو، كانت الشرطة والأجهزة الأمنية
هذا من حيث الشكل أو الإطار الخاص للاجتماع. أما في ما يخصّ المضمون، وبتفصيلٍ أكثر، فتمثل بالهدف أساساً، السعي لعدم تفجّر الأوضاع بالقدس والضفة الغربية، وربما غزّة، قبل شهر رمضان في مارس/ آذار الحالي والعشر الأواخر منه وعيد الفطر في إبريل/ نيسان، وذكرى اغتصاب فلسطين في مايو/ أيار، ثم احتلال الضفة الغربية وغزة في يونيو/ حزيران، وذكرى "توحيد القدس"، حسب التعبير الإسرائيلي. ويفسّر هذا الهدف تحديد القمة سقفاً زمنياً لأجندتها من ثلاثة أشهر إلى ستة، وهو مرتبط بالأجندة الأميركية لا الفلسطينية فقط، حيث الشهور الحاسمة بالربيع والصيف في الحرب الروسية على أوكرانيا كما الملف النووي الإيراني أيضاً، وواشنطن لا تريد الانشغال بأي أمر أو قضايا أخرى تعدّها جانبية أو قابلة للانتظار.
في السياق نفسه، يندرج الحديث عن تعليق الاستيطان والخطوات الأحادية ثلاثة أشهر إلى ستة، وهذا محض تذاكٍ، ويهدف إلى هضم القرارات الاستيطانية (تبييض تسع بؤر غير قانونية وخطط بناء 17 ألف وحدة استيطانية) التي اتخذت فعلاً، وسيحتاج تنفيذها شهوراً، بينما كان الحديث عن وقف الاقتحامات الإسرائيلية وتغيير الواقع الراهن في الأقصى، والتوغلات الليلية التي أصبحت نهارية في المدن الفلسطينية بلاغياً ودعائياً فقط. ولذلك، حُدِّد موعد لاجتماع آخر منتصف الشهر الحالي (مارس/ آذار) في شرم الشيخ المصرية (في ما يشبه المداورة مع العقبة) قبل رمضان مباشرة، لإبقاء العربة على السكّة وصيانة الواقع الراهن قدر الإمكان.
شهدنا كذلك الضريبة الخطابية نفسها، أو مغسلة الكلمات حول الأفق السياسي وتقوية السلطة أمنياً واقتصادياً للقيام بمهامها بحفظ الأمن، علماً أن الإشارة الوحيدة إلى القوّة في السياق الفلسطيني في اتفاق أوسلو، كانت الشرطة والأجهزة الأمنية، بلا محكمة عدل عليا أو منظمة بتسيلم لحقوق الإنسان، حسب التعبير العنصري والمتغطرس لرئيس الوزراء الراحل إسحق رابين.
تبدو السلطة الفلسطينية أسيرة المسار نفسه منذ اتفاق أوسلو، رغم بؤس المصير، بعدما باتت حتى أقلّ من سلطة حكم ذاتي، وشبيهة بروابط القرى سيئة الصيت
لا تخدم القمة الأمنية في العقبة راعيها الأميركي فقط، بل تفيد الأردن ومصر باتجاه الداخل، لضمان عدم غليان الشعبين تجاه الممارسات الإسرائيلية، لكون القضية الفلسطينية كانت ولا تزال قضية وطنية وقومية بامتياز، وبالتالي، احتمال الانفجار باتجاه الأنظمة المتساوقة أو المهادنة للحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرّفاً وفظاظةً في تاريخ الدولة العبرية. والانخراط العربي في الجهود الأميركية للتهدئة في الأراضي الفلسطينية يهدف كذلك إلى نيل جوائز ترضية سياسية وإعلامية ومالية من واشنطن التي لا تريد الانشغال الجدّي بفلسطين وقضيتها، لكنها تبذل الجهود لضمان التهدئة وعدم الانفجار، لكونها مستنزفة في ملفّات أخرى، وتريد بقاء الوضع فيها تحت السيطرة، كي لا يفيض على المنطقة، وحتى برمته، نظراً إلى مكانة القضية ومركزيتها وتأثيراتها الإقليمية والأممية بامتياز أيضاً.
أخيراً، لا بد من بضع كلمات عن ثرثرة السلطة الفلسطينية عن الأفق السياسي وحلّ الدولتين، رغم قبولها الضمني، بل الصريح بالتهدئة وتحسين أوضاعها الاقتصادية والأمنية، حتى مع اليقين بعدم وجود أفق لتلك الخطوات، اللهم إلا المراوحة في المكان، حيث تبدو السلطة أسيرة المسار نفسه منذ اتفاق أوسلو، رغم بؤس المصير، بعدما باتت حتى أقلّ من سلطة حكم ذاتي، وشبيهة بروابط القرى سيئة الصيت.
في كل الأحوال، لم تكن قمّة العقبة مفصلية ولا تاريخية، وهي بالضبط مجرّد اجتماع صغير كما قال السفير الأميركي لدى إسرائيل، توماس نايدز، في ندوة معهد أبحاث الأمن القومي بجامعة تل أبيب الأربعاء الماضي. وحتى قبل أن يجفّ حبر بيانها الختامي الإنشائي والضبابي، على علاته، تنصّل منه الإسرائيليون، بمن فيهم تساحي هنغبي ورئيسه نتنياهو. ورغم حاجة هذا الأخير للتطبيع مع الدول العربية، إلا أنه يبدو أسيراً لحلفائه المتطرّفين وأزماته الداخلية، أو يدرك ربما أن العرب غير جدّيين، وسيطبّعون معه في كل الأحوال، بغضّ النظر عما يجري في فلسطين وقضيتها.